ا.د/ كارم السيد غنيم أستاذ بكلية العلوم جامعة الأزهر
تمهــــــــــيد:
الكلب هو أول حيوان استأنسه الإنسان، وارتبط كل منهما بالآخر، وتولدت بينهما صداقة أخذت تنمو خلال العصور، لما يتمتع به الكلب من صفات الوفاء والإخلاص للإنسان وقدرته الكبيرة في الصبر وتحمل المشاق والشجاعة... ولا تزال الآثار الباقية تدل على وجود الكلب مع الإنسان منذ آلاف السنين، حين كان الإنسان يعيش في الكهوف... وتحكي الكتب القديمة، والحديثة، الكثير من النوادر والطرائف المثيرة عن الكلاب، وكذلك الوقائع التي للكلب فيها دور قد يصل إلى مرتبة البطولة... ويستفيد الإنسان من الكلاب في أمور كثيرة كالحراسة والصيد والزينة وتعقب المجرمين، وإرشاد العميان إلى الطريق الآمن، وشدّ عربات المعاقين جسديا، وشدّ الزحافات وخلافه.
وتعيش الكلاب البريّة في جماعات، وتتعاون على الصيد... ويقود الجماعة أكبر الكلاب سنا وأكثرها خبرة وأعظمها شجاعة... ويتزاوج الكلب مع الكلبة وينجبا جراءً (جمع جَرو) بعد فترة حمل تصل إلى 61يوم، ولا تقل عن 60يوم... ويُعرف عمر الكلب من أسنانه، فكلما اسودّت دلّ ذلك على كبره، وكلما كبر عمره غلظ صوته... وقد قسمنا البحث الحالي قسمين، أولهما يتناول المثل القرآني المضروب بالكلب، وما يمكن استنباطه من إشارات علمية واردة بالآيات القرآنية، وأما القسم الثاني فيتناول العديد من الأحاديث النبوية والأحكام الفقهية في الشريعة الإسلامية.
ورد الكلب في خمسة مواضع بالقرآن الكريم، وفي العديد من الأحاديث النبوية، أما القرآن الكريم، فورد ذكر الكلب في أربعة مواضع من سورة الكهف، وفي موضع واحد من سورة الأعراف. أما المثل المضروب بالكلب في سورة الأعراف فهو المحور الأساس في رسالتنا الحالية التي سنستعرض فيها، أيضا، الأحكام الفقهية المبنية على الأحاديث النبوية الواردة في أمور متعلقة بالكلب...
في رحـــاب سورة الأعـراف:
سورة الأعراف سورة مكية النزول وهى من أطول السور المكية، وقد نزلت لتقرير أصول الدعوة الإسلامية، كغيرها من هذه السور، من توحيد لله، وتقرير للبعث والحساب والجزاء، وكذلك لتقرير الوحي والرسالة... وهى أطــول سورة عرضت لتفصيل قصص الأنبياء... وقد تضمنت هذه السورة العديد من المسائل أو الموضوعات، منها وجوب اتباع القرآن الكريم، عاقبة مخالفة الرسل وتكذبيهم، الدعوة إلى ترك الضلال والتحذير من وساوس الشيطان، أنواع المحرّمات وأصولها، أحوال بني آدم بعد الموت، عاقبة الجاحـدين بآيات الله عز وجل ، دلائل القدرة والوحدانية، دعوة نوح، معاناة هود، قصة صالح، فاحشة قوم لوط، دعوة شعيب قومه إلى توحيد الله، قصة موسى مع فرعون، جحود بني إسرائيل نعم الله عليهم، علم الساعة غيب لا يعمله إلا الله...إلخ، ثم خُتمت السورة بالتوحيد، كما بدأت بالتوحيد، وعبادة الله وحده لا شريك له.
وهذه السورة الكريمة هي السابعة في ترتيب سور المصحف الشريف، بعد سورة الأنعام وقبل سورة الأنفال، وعدد آياتها مائتان وستة آيات، بدأت بقول الله تعالى: ( المص{1} كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ{2})، وخُتمت بقوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ{206})، وفي هذه الخاتمة سجدة تلاوة...
كما تضمنت سورة الأعراف العديد من المسائل العلمية والإشارات الكونية، منها – على سبيل المثال: تصوير الإنسان بعد خلقه من طين، السرعة الفائقة التي كانت الأرض تدور بها حول محورها أمام الشمس في بدء الخلق، تسخير أجرام السماء من نجوم وكواكب وغيرها، تصريف الرياح وإزجاء السُحب بأمر الله وقدرته، مشارق الأرض ومغاربها، وجود المكنوز الوراثي لجميع البشر إلى يوم القيامة في صُلب آدم وصُلب حوّاء، وهما أصل البشرية... إلخ
وإضافة إلى هذا وذاك، المَـثل الذي ضربته الآية (176) في هذه السورة الكريمة لعلماء السوء، ولمن يلهث وراء أعراض الدنيا الفانية، بالكلب الذي يلهث على كل حال، طُورد أم لم يُطارد... يقول الله عز وجل: ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ{175} وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ{176})، وهو المثل القرآني الذي يمثل المحور الرئيس للرسالة الحالية، كما أشرنا في التمهيد...
ضرب المَـثل بالكلب، كما ورد في كتب التفسير:
جاء في "جـامع البيان في تفسير القرآن " للطــبري (ت310هـ) في قول الله عز وجل: (وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ ): أصل الإخلاد في كلام العرب الإبطاء والإقامة. وكان بعض البصريين (من أصحاب اللغة ) يقول: معنى قوله: " أخلد": لزم وتقاعس وأبطأ. والمخلد أيضاً: هو الذي يبطئُ شَيْبهُ من الرجال...
وقد عمّم الطبري ضرب المثل بالكلب، وإن كان قد أشار إلى تخصيص البعض له بمن يُدعى (بلعم)، فقال:... ثم اختلف أهل التأويـل فـي السبب الذي من أجله جعل الله مثله كمثل الكلب، فقال بعضهم: مثَّله به فـي اللهث لتركه العمل بكتاب الله وآياته التـي آتاها إياه وإعراضه عن مواعظ الله التـي فـيها إعراض من لـم يؤته الله شيئاً من ذلك، فقال جلّ ثناؤه فـيه: إذا كان سواء أمره وُعظ بآيات الله التـي آتاها إياه، أم لـم يُوعظ فـي أنه لا يتعظ بها، ولا يترك الكفر به، فمثله مثل الكلب الذي سواء أمره فـي لهثه، طرد أو لـم يُطرد، إذ كان لا يترك اللهث بحال. ذكر من قال ذلك: حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالـح، قال ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله: ( فَمَثَلُهُ كمَثَلِ الكَلْبِ إنْ تَـحْمِلْ عَلَـيْهِ ) الـحكمة لـم يحملها، وإن ترك لـم يهتد لـخير، كالكلب إن كان رابضاً لهث وإن طُرد لهث.
ثم يأتي الفخر الرازي بعد الطبري بقرون، ليؤكد تعميم ضرب هذا المثل، بل ويفصّل فيه. يقول الفخر (ت606هـ) ( في "التفسير الكبير") - بعد أن عرض لبعض اللغويات ومفردات اللغة في الآية الكريمة:... واعلم أن هذا التمثيل ما وقع بجميع الكلاب، وإنما وقع بالكلب اللاهث، وأخس الحيوانات هو الكلب، وأخس الكلاب هو الكلب اللاهث، فمن آتاه الله العلم والدين فمال إلى الدنيا، وأخلد إلى الأرض، كان مُشبهاً بأخسّ الحيوانات، وهو الكلب اللاهث. وفي تقرير هذا التمثيل وجوه:
الأول: أن كل شيء يلهث، فإنما يلهث من إعياء أو عطش، إلا الكلب اللاهث فإنه يلهث في حال الإعياء، وفي حال الراحة، وفي حال العطش، وفي حال الري، فكان ذلك عادة منه وطبيعة، وهو مواظب عليه كعادته الأصلية، وطبيعته الخسيسة، لا لأجل حاجة وضرورة، فكذلك من آتاه الله العلم والدين أغناه عن التعرّض لأوساخ أموال الناس، ثم إنه يميل إلى طلب الدنيا، ويُلقي نفسه فيها، كانت حاله كحال ذلك اللاهث، حيث واظب على العمل الخسيس، والفعل القبيح، لمجرد نفسه الخبيثة. وطبيعته الخسيسة، لا لأجل الحاجة والضرورة.
والثاني: أن الرجل العالِم إذا توسّل بعلمه إلى طلب الدنيا، فذاك إنما يكون لأجل أنه يورد (أي يعرض) عليهم أنواع علومه، ويظهر عندهم فضائل نفسه ومناقبها، ولا شك أنه عند ذكر تلك الكلمات، وتقرير تلك العبارات يدلي لسانه، ويخرجه، لأجل ما تمكن في قلبه من حرارة الحرص وشدة العطش إلى الفوز بالدنيا، فكانت حالته شبيهة بحالة ذلك الكلب الذي أخرج لسانه أبداً من غير حاجة ولا ضرورة، بل بمجرد الطبيعة الخسيسة.
والثالث: أن الكلب اللاهث لا يزال لهثه البتة، فكذلك الإنسان الحريص لا يزال حرصه البتة.... أما قوله عز وجل: ( إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ ) فالمعنى أن هذا الكلب إن شدّ عليه وهُيج لهث، وإن تُرك أيضاً لهث، لأجل أن ذلك الفعل القبيح طبيعة أصلية له، فكذلك هذا الحريص الضال إن وعظته فهو ضال، وإن لم تعظه فهو ضال، لأجل أن ذلك الضلال والخسّة عادة أصلية وطبيعية ذاتية له.
وقد اختلف المفسرون في تعيين الشخص الذي نزلت فيه الآيات، على أقوال أقربها إلى الحقيقة أن يكون صاحب هذا النبأ ممن كان للعرب إلمام بمجمل خبره، كأمية بن أبي الصلت الثقفي... وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم (كاد أمية أبي الصلت أن يُسلم) وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم (آمنَ شعره وكفرَ قلبه ) يريد أن شعره كشعر المؤمنين، وذلك أنه يوحّد الله في شعره، ويذكر دلائل توحيده من خلق السموات والأرض، وأحوال الآخرة، والجنة النار، والثواب والعقاب، واسم الله وأسماء الأنبياء. وروى عن أمية أنه قال لمـــا مرِض مرَض موته: ( أنا أعلم أن الحنيفية حق، ولكن الشك يداخلني في محمد ).
تــــــــــــــــــابـــــــــــــــــــــــــــــــــع.