وبعد أن انقضى موسم الحج، فلعل من الخير أن نتذاكر شيئًا من العبر التي نستفيد منها، حتى لا نكون موسميين، تنفصل في حياتنا مواسم الخير عن غيرها، فإنا منذ أن رضينا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد، صلى الله عليه وسلم، رسولاً ونبيًّا، ونحن نقول: «قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ» (الأعراف: 162، 163). فموسم العبادة هو حياتنا كلُّها، بلا استثناء، والله سبحانه وتعالى يربينا بالحج، ويربينا بالصلاة، ويربينا بالدعاء، ويربينا بالافتقار إليه عز وجل.
الحج تلك الرحلة الإيمانية التي تنطلق فيها أفئدة المؤمنين من قيود الأرض، وجواذب الماديات، إلى رحابة التسليم التام للخالق العظيم، والانقياد لأوامره دون تردد..
هذه الرحلة التي تعيش أمنية غالية تتلجلج في صدر كل فرد مسلم، مهما ابتعدت بقعته وشط مزاره.. حتى لتجد عينيك تهملان وأنت تستمع إلى إخوتك القادمين من الخارج، وهم يروون -عبر الأثير- قصص الشوق والهيام برؤية الكعبة المشرفة.. ومشاعرهم الفياضة التي لا يصفها غير تهدج الصوت، واختلاط الحروف، والعبرات المسكوبة الصادقة.. حين تقع عيونهم على بنائها المهيب..
من خلال حج هذا العام شهد حجاج بيت الله العظيم صور التنظيم الرائع الذي قام به رجالات هذا البلد وهم في كل لفتة من لفتات العين، ينظمون، وينشرون الوعي الأمني والشرعي، ويضحون بأعصابهم وراحتهم؛ من أجل راحة ضيوف الرحمن، وصحة حجهم، ويتعاملون بأخلاق رفيعة عالية.
وشاهد -كذلك- أهل الخير وهم يسهمون في تقديم الخدمات للحجاج بشتى صنوفها، عن طريق المبرات والجمعيات الخيرية التي تهدي الوجبات الصحية بمئات الآلاف في المشاعر، وتقدم المشروبات في وقت الحاجة إليها، بل تقدم الكتب والمطبوعات بالآلاف لرفع مستوى الوعي الشرعي. فجزى الله الجميع كل خير عن كل حجاج بيت الله.
لقد كان حج هذا العام منظمًا حقًا.. سادت فيه صور كثيرة من الإيثار والمحبة بين المسلمين، وازدادت فيه دلالات الفقه والعلم بالأحكام الشرعية، والحرص على الإفادة من الوقت كله في طاعة الله تعالى. وذلك تحقيق واقعي لأهم حِكَم الحج، وهي أنه يربطنا بقدوتنا العظمى محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، الذي قال: ((خذوا عني مناسككم)) ، فالمسلم الذي راح يسأل ويتحرى أن يكون حجهُ كلُّه وفق الهدي النبوي الكريم، يرجو ألا يحيد عنه، رجاء قبوله، ينبغي له كذلك أن يتأسى به في كل حياته بعد ذلك، وأن يسأل كذلك عن كل ما يخص دقائق حياته ومعاملاته، فالله تعالى يقول في محكم التنزيل: «قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ» (الأعراف: 162، 163). إنها آية عظيمة تضع المسلم أمام حقيقة ربما غفل عنها في خضم الحياة، وهي أن حياة الإنسان كلَّها لله، بل ومماته يجب أن يكون وفق نهجه وهديه كما هو شأن صلاته وعبادته المحضة، يتقفى في ذلك كلِّه أثر الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، فلا يستعير منهجًا لماله من جهة، ومنهجًا لأسرته من جهة ثانية، ومنهجًا لفكره من جهة ثالثة، ولا يدع لله إلا ركعات ربما لا يدري ماذا قال فيها، وصيامًا فقد حقيقته، وحجًا جهل أسراره، فعاشه بجسده ولم يعشه بقلبه، فإن «لا إله إلا الله» منهج متكامل للحياة كلها بلا استثناء. يقول عمر أبو ريشة بعد قضاء حجه مصوِّرًا مَن يعيش دينه بظواهره لا بحِكَمه:
تــــــــــابــــــــــــــع