الباقر الشريف مشرف
عدد الرسائل : 87 العمر : 67 مزاجك اليوم : الأوسمة : السٌّمعَة : 1 تاريخ التسجيل : 20/10/2008
| موضوع: قصة سيدنا سليمان عليه السلام الخميس يناير 13, 2011 5:29 am | |
| ]size=18]بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صلى وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه
اعلَموا رحمكُمُ اللهُ أنّ أفضلَ الخلائقِ عُلْوِيِّها وسُفلِيِّها الأنبياءُ لِما أعطاهُمُ اللهُ منَ الصبرِ والتُّقى، وإنّ أحسنَ القَصَصِ قَصَصَهُمْ لِما جعلَ اللهُ فيها منْ مواعظَ وعِبَر. وبالاطلاعِ على قَصَصِ حياتِهم صلواتُ ربِّي وسلامُهُ عليهمْ أجمعينَ وما حَفَلَتْ بهِ منْ أحداثٍ واشْتَمَلَتْ عليهِ منْ أفعالٍ لدليلاً لنا نَنْهَجُهُ ونستنيرُ ونستعينُ بهِ لِلوُصولِ إلى الإيمانِ الكاملِ الذي هو سبيلُ النّجاةِ والفوزِ في الآخرةِ ، وموضوعنا بإذنِ اللهِ ربِّ العالمينَ عنْ سيّدِنا سليمانَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ.
يقولُ ربُّ العزّةِ في مُحكمِ التنْـزيلِ ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ سورةُ يوسفَ/ 111 .
أكرمَ اللهُ عزَّ وجلَّ عبدَهُ ونبيَّهُ سليمانَ عليهِ السلامُ بنعَمٍ كثيرةٍ وخَصّهُ بمزايا رائعةً كانتْ عُنوانًا للعَظَمَةِ والمجدِ ومَظْهرًا من مظاهِرِ المُلْكِ العظيمِ والجاهِ الكبيرِ والدرجةِ العاليةِ عندَ اللهِ سبحانَهُ، فقدْ فضّلَهُ اللهُ تعالى بالنبُوّةِ وتسخيرِ الشياطينِ والجنِّ والطيرِ وقدْ علّمَهُ اللهُ تعالى مَنْطِقَ الطّيرِ ولُغتَهُ وسائرَ لغاتِ الحيواناتِ فكانَ يفهمُ عنْها ما لا يفهمُهُ سائرُ الناسِ وكانَ يتحدّثُ معها أحيانًا كما كانَ الأمرُ مع الهُدْهُدِ والنّملِ.
يقولُ ربُّ العزّةِ في مُحكمِ التنْـزيلِ: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَـنُ دَاوُودَ وَقَالَ يَـأَيُّهَا النَّاسُ عُلّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَىْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾ سورةُ النملِ/16 ، أيْ كأنّهُ ورِثهُ وإلا فالنُّبُوَّةُ لا تورثُ .
فلقدْ علّمَهُ اللهُ تعالى مَنطِقَ الطيرِ ولغتَهُ وسائرَ لغاتِ الحيواناتِ، فكانَ يفهمُ عنها ما لا يفهمُهُ سائرُ الناسِ.
رُوِيَ أنّهُ صَاحَ هُدْهُدٌ فقالَ سليمانُ عليهِ السلامُ: يقولُ استغفِروا اللهَ يا مُذنِبُونَ، وصاحَ خُطّافٌ فقالَ يقولُ: قدِّموا خيرًا تجدوهُ،
وصاحتْ رَخْمَةٌ (وهوُ طائرٌ أبقَعُ يشبِهُ النَّسْرَ في الخِلقَةِ) فقالَ: تقولُ سبحانَ ربِّيَ الأعلى ملءَ سمائِهِ وأرضِهِ،
وصاحَ قُمْرِيٌّ فأخبرَ أنّهُ يقولُ سبحانَ ربِّيَ الأعلى ،
وقالَ: الحِدَأَةُ تقولُ كلِّ شىءٍ هالِكٌ إلا اللهُ ،
والقَطاةُ تقولُ مَنْ سكتَ سَلِمَ ،
والدِّيكُ يقولُ اذكروا اللهَ يا غافلونَ ،
والنَّسْرُ يقولُ يا ابنَ ادمَ عِشْ ما شِئْتَ ءاخرُكَ الموتُ ،
والعُقابُ يقولُ في البعدِ مِنَ الناسِ أُنْسٌ (أي مَنْ بعضِ الناسِ) ،
والضِّفدِعُ يقولُ سبحانَ ربِّي القُدُّوسُ .
وسَخّرَ اللهُ تعالى لنبِيِّهِ سليمانَ عليهِ السلامُ الرِّيحَ فكانتْ تنقلُهُ إلى أيِّ أطرافِ الدنيا شاءَ، يقولُ اللهُ تعالى: ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ﴾ سورةُ ص/36 ، وذلك تبليغُ المَلَكِ له عن الله .
وأوْحَى اللهُ تعالى إليه وهو يسير بين السماء والأرض: "إني قدْ زدتُ في مُلكِكَ أن لا يتكلمَ أحدٌ بشىءٍ إلا ألقَتْهُ الريحُ في سَمعِكَ" .
فيحكى أنه مر بفلاح يحرث أرضه، مرّ سليمان وهو على بساط الريح يسير بين السماء والأرض فنظر اليه الفلاح وقال: "لقد أوتي ءال داود ملكًا عظيمًا" فألقت الريح كلام الفلاح في أذن سيدنا سليمان عليه السلامُ ، فنَزل سليمانُ عليه السلام ومشى إلى الفلاح وقال: "إني جئت إليك لئلا تتمنّى ما لا تقدر عليه" ثم قال: "لتسبيحة واحدة يقبلها الله منك خير من الدنيا وما فيها" .
ومنْ نِعَمِ اللهِ تعالى على سليمانَ عليهِ السلامُ أنّ جُندَهُ كانَ مؤلّفًا من الجنِّ والإنسِ والطيرِ وكانَ سليمانُ عليهِ السلامُ قدْ نظّمَ لهمْ أعمالَهم ورتّب لهم شئونَهم فكانَ إذا خرجَ خرجوا معهُ في موكبٍ حافلٍ مُهيبٍ يحيطُ بهِ الجندُ والخدَمُ منْ كلِّ جانبٍ وأخبرَ اللهُ تعالى عنْ عبدِهِ ونبيِّهِ سليمانَ عليهِ السلامُ أنّهُ ركِبَ يومًا في جيشِهِ المؤلّفُ منَ الجنِّ والإنسِ والطيرِ ، يقولُ ربُّنا في القرءانِ العظيمِ : ﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَـأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَـاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَـنُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ سورة النمل/18 .
فهذِهِ النَّمْلَةُ ( واسْمُها طاخية أو منذرة ) تكلَّمَتْ بِصَوْتٍ أَمَرَتْ فيهِ أُمَّةَ النَّملِ في ذلك الوادِي أَنْ يَدْخُلُوا مَسَاكِنَهُم حَذَرًا مِنْ أَنْ يُحَطِّمَهُمْ سليمانُ عليهِ السلامُ وجنودُهُ أثناءَ سيرِهِمْ، لَقَدْ أَلْهَمَ اللهُ عَزَّ وجلَّ تلكَ النَّملَةَ معرِفَةَ نبيِّهِ سليمانَ عليهِ السلامُ كما أَلْهَمَ النملَ كثيرًا مِنْ مَصالِحِهَا ﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَـأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَـاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَـنُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ سورة النمل/18 .
﴿وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ لا يَعلَمونَ بِمَكانِكم، أي لَوْ شَعَرُوا لَمْ يَفْعَلوا، قالَتْ ذلك على وَجْهِ العُذْرِ واصِفَةً سليمَانَ وَجُنودَهُ بِالعَدْلِ، فَسَمِعَ سليمانُ قَوْلَها مِنْ ثَلاثَةِ أَمْيَالٍ فَتَبَسَّمَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ مِنْ قَوْلِها مُتَعَجِّبا مِنْ حَذَرِها واهتِدائِهَا لِمَصالِحها وَنَصيحَتِها لِلنَّمْلِ فَأَمَرَ سليمانُ عليهِ السلامُ الريحَ فوَقَفَتْ لِئَلاَّ يذعرنَ حتى دَخَلْنَ مساكِنَهُنَّ أوقَفَ سليمانُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ موكبَهُ العَظِيمَ حَتَّى يَدْخُلْنَ أَيِ النملُ إلى بُيوتِهِنَّ ودَعَا رَبَّه ، قَالَ تعالَى إِخْبَارًا عن سِيّدنا سليمانَ: ﴿فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَـالِحًا تَرْضَـاهُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّـالِحِينَ﴾ سورة النمل/19 ﴿رَبّ أَوْزِعْنِي﴾ أي أَلْهِمْنِي .
وكانتْ وظيفةُ الهُدْهُدِ في جيشِ سيّدِنا سليمانَ أنّهم كانوا إذا أعوزوا الماءَ واحتاجوا إليهِ في حالِ الأسفارِ أنْ يجيءَ الهُدْهُدُ فينظرَ لهم هلْ بهذهِ البقاعِ مَنْ ماءٍ ؟ لأنّ الهُدْهُدَ كانَ ينظرُ إلى الماءِ تحتَ تُخومِ الأرضِ ، كانَ يرَى الماءَ في الأرضِ كما يرى الماءَ في الزّجاجَةِ بمشيئةِ اللهِ تعالى. فلقدْ ذَكَرَ المفسّرونَ أنّ سليمانَ لما حَجّ خرَجَ إلى اليمنِ فوافى صنعاءَ وقتَ الزّوالِ فنَزَلَ ليصلّي فلمْ يجدِ الماءَ فتفقّدَهُ لذلكَ .
وذُكِرَ أيضًا أنّه وقعتْ نفحةٌ منَ الشمسِ على رأسِ سيِّدِنا سليمانَ فنظرَ فإذا موضعُ الهُدْهُدِ خالٍ ، لأنّ الطّيرَ كانتْ تُظِلّ سليمانَ عليهِ السلامُ منْ أشعّةِ الشّمسِ . فلمّا فقدَ الهُدْهُدَ دعا عريفَ الطّيرِ وهو النَّسْرُ فسألَهُ عنهُ فلمْ يجدْ عندَهُ عِلْمَهُ ، ثمّ قالَ لسيّدِ الطّيرِ وهوَ العُقابُ: "عليَّ بهِ" فارتفعَ العُقابُ فنظرَ فرأى الهُدْهُدَ مُقبِلاً منْ بعيدٍ فقصدَهُ فقالَ لهُ الهُدْهُدُ: "ناشدتُكَ اللهَ أنْ تتْرُكَني" فتركَهُ ووصلَ الهُدْهُدُ إلى سيِّدِنا سليمانَ فلمّا قَرُبَ منهُ أرْخَى ذنبَهُ وجناحيْهِ يجرُّهُما على الأرضِ وقال: "يا نبيَّ اللهِ اذكُرْ وقوفَكَ بينَ يديِ اللهِ" .(أيْ في موقفِ يومِ القيامةِ، وليس معنى ذلك أنّ الله موضوفٌ باليدِ الجارحةِ لأنه منَزّهٌ عن ذلك وموجودٌ بلا مكانٍ) فارتعَدَ سليمانُ وعفا عنهُ. يقولُ ربُّ العِزّةِ في مُحكَمِ التّنْزيلِ: ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ سورة النمل/20-21 .
قالَ أوْ لأذبحنَّهُ أوْ ليأتيَني بسلطانٍ مبينٍ أي بحُجّةٍ لهُ فيها عُذرٌ ظاهرٌ على غيبتِه.
فلمّا سألَهُ عنْ غَيْبَتِهِ أخبرَهُ بأنّهُ اطّلَعَ على ما لَمْ يطّلِعْ عليهِ وأخبرَهُ بخبرٍ يقينٍ صادقٍ وهوُ أنّهُ كانَ في اليمنِ في بلدَةِ سبَإٍ وأنّ هناكَ مَلِكَةً على هذهِ البلادِ تُدعى بلقيسَ قدْ ملَكَتْ على تلكَ الأمّةِ في اليمنِ وأوتيَتْ منْ كلِّ شىءٍ يُعطاهُ المُلوكُ ويؤتاهُ النّاسُ ولها عرشٌ عظيمٌ مزخرفٌ بأنواعِ الزِّينةِ والجواهرِ مِمّا يُبهِرُ العيونَ. يقولُ اللهُ تعالى: ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلاَّ يَسْجُدُوا للهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ سورةُ النملِ/22-23-24-25-26 .
أَلاَّ يَسْجُدُوا للهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وخَبْءُ السّماءِ المطرُ، وخَبْءُ الأرضِ النباتُ. وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ، فلمّا فَرَغَ الهُدْهُدُ منْ كلامِهِ قالَ سليمانُ عليهِ السلامُ: "سننظُرُ أصدَقْتَ (أي فيما أخبَرْتَ عن خبر بلقيس) أمْ كنتَ منَ الكاذبينَ ؟"
ثمّ كتبَ سليمانُ كتابًا: "منْ عبدِ اللهِ سليمانَ بنَ داودَ إلى بلقيسَ ملكةِ سبَإٍ بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ السلامُ على مَنِ اتّبعِ الهُدى أمّا بعدُ فلا تعلُو عَلَيّ وأتوني مسلمينَ" وطَبَعَهُ بالمِسكِ وختمَهُ بخاتَمِهِ وقالَ للهُدْهُدِ: "اذهبْ بكتابي هذا فألْقِهِ إليهِمْ " أيْ إلى بَلقيسَ وقومِها، فأخَذَ الهُدْهُدُ الكتابَ بمِنقارِهِ ودخلَ عليها مِنْ كُوّةٍ فطَرَحَ الكتابَ على نَمْرِها وهي راقدةٌ وتوارى في الكَوَّةِ فانتبَهَتْ فَزِعَةً ، يقولُ اللهُ تعالى في القرءانِ العظيمِ إخبارًا عنْ بلقيسَ : ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ النمل/29-30-31 .
الهُدهُدِ الذي حَمَلَ كِتَابَ سليمانَ عليهِ السّلامُ وجاءَ إلى قَصْرِ بِلقِيسَ وَأَلْقَاهُ إليهَا وهيَ على سَرِيرِ عَرْشِها ثمَّ وقَفَ نَاحِيةً يَنْتَظِرُ ما يكونُ منْ جوابِها عنْ كتابِ سليمانَ، وأخذتِ المَلِكَةُ بلقيسُ الكتابَ فقرأَتْهُ ثمَّ جَمَعَتْ أُمَرَاءَها وَوُزَراءَها وأكابِرَ دوْلتِها إلى شُورَتِها ثُمَّ قالَتْ ما أخبرَ اللهُ تعالَى في القرءانِ العظيمِ: ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ﴾ سورة النمل/29. أيْ كتابٌ حَسَنٌ مَضْمُونُهُ وما فيهِ ﴿إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ﴾ أيْ إنَّ الكتابَ من سليمانَ. ﴿إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ سورة النمل/30-31 .
أي لا تَتَرَفّعُوا عليّ ولا تتكَبَّرُوا وأْتُونِي مُسْلِمِينَ مؤمنينَ. وكُتُبُ (أيْ رسائلُ) الأنبياءِ مبْنِيَّةٌ على الإِيجَازِ والاخْتِصارِ. ثمّ شاوَرَتْهُمْ في أمرِها وما قدْ حَلَّ بِها فَأَخَذتْ رِجَالَ دَوْلتِها العِزَّةُ بالإثمِ وثارتْ فيهمُ الحمَاسَةُ للقتالِ ﴿قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ الآية، النمل/33 .
وقيلَ كانَ أهلُ مَشورتِها ثَلاثَمِائةٍ وثَلاثةَ عشرَ رجلاً كلُّ واحِدٍ على عَشَرةِ ءالافٍ (أيْ مجموعُهم 3.130.313 شخصًا) وأرادوا بالقُوَّةِ قُوَّةَ الأجسادِ والآلاتِ. ثمّ قالوا لها بعدَ أنْ عرَّضُوا لها بالقتالِ: ﴿وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ﴾ الآية النمل/33. أيْ مَوْكولٌ إليكِ ونحنُ مطيعونَ لكِ فَمُرِينا بأمرِكِ نُطِعْكِ ولا نخالِفْكِ، كأنّهم أشارُوا عليها بالقتالِ. فلمَّا أحسَّتْ منهمُ الميلَ إلى المحاربةِ مالتْ إلى المصالَحَةِ. وقالَتْ: "إنَّ الملوكَ إذا دَخَلوا قريةً عُنوةً وقَهرًا خرّبوها وأذلّوا أعِزَّتَها وأهانوا أشرافَها وقَتَلوا وأَسَروا".
وعلمتْ أنّ صاحبَ هذا الكتابِ قَوِيُّ السّلطانِ يغلبُ أعداءَهُ ولا يخالَفُ ولا يُخادَعُ. ثمّ عرَضَتْ بلقِيسُ على رجالِ دولتِها ووزرائِها رأيًا وجَدَتْهُ أقرَبَ إلى حَلِّ تلكَ القضيّةِ المسْتَجِدّةِ وهي أنْ تُرسِلَ إلى سليمانَ هدِيّةً تَسْتنْزِلُ مودّتَهُ بسبَبِها وتُحَمِّلُّ هذهِ الهديّةَ لرجالٍ دُهاةٍ منْ رجالِها حتى ينظرُوا مدَى قُوَّةِ سليمَانَ عليهِ السلامُ ثمّ بَعْدَ ذلكَ تُقرِّرُ ما ستفعلُهُ في أمرِ سليمانَ على ضوْءِ ما يأتِيها منْ أخبارٍ عَنْهُ وَعَنْ قُوّتِهِ، وهي كانت عَرفَتْ عادةَ الملوكِ وحُسْنَ مواقِعِ الهدايا عندَهُم فإنْ كانَ ملِكًا قبِلَها وانصرَفَ، وإنْ كانَ نبِيًّا رَدَّها ولَمْ يَرْضَ إلا أنْ تَتْبَعَهُ على دينِهِ.
فبعَثَتْ إليهِ خَمْسَمِائةِ غلامٍ وخَمسَمِائةِ جاريةٍ وتَاجًا مُكَلَّلاً بالدُرِّ والياقوتِ وألفَ لَبِنَةٍ منْ ذهبٍ وفِضّةٍ وغيرَ ذلكَ منَ الهدايا.
وكتبَتْ كتابًا فيهِ نُسخةُ الهدايا وقالتْ فيهِ: "إنْ كنتَ نبيًّا فمَيِّزْ بينَ الوُصَفاءِ (الغِلمان الذكور) والوَصَائِفِ (الجواري الإناث) (لأنه لا يميّزُ بينهمْ بمجرّدِ النّظرِ) وأخبِرْ بِمَا فِي الْحُقِّ (شىءٌ تُوضَعُ فِيهِ الأشياءُ الثّمينةُ) واثقُبِ الدُّرَّةَ (اللؤلؤة) ثُقبًا واسْلُكْ في الخَرْزَةِ خيْطًا".
ثمّ قَالَتْ للمُنذِرِ (رسولِ بلقيس): "إنْ نَظَرَ إليكَ نَظَرَ غَضْبانَ فهوَ مَلِكٌ فلا يَهُولَنَّكَ منظَرُهُ (أيْ لا يُفزِعُكَ) وإنْ رأيتَهُ بَشّاشًا لَطيفًا فهوَ نَبِيٌّ".
فأَقْبَلَ الهدْهُدُ وأخبرَ سليمانَ الخبرَ كُلَّهُ، فَأَمَرَ سليمانُ الجِنَّ فَضَرَبُوا لَبِناتِ الذّهبِ والفِضّةِ وفَرَشوها في مَيْدانٍ بينَ يديهِ طولُهُ سبْعَةُ فراسِخَ (الفَرسَخُ 3 أميالٍ والميْلُ 6000 ذراعٍ أيْ سبعةُ فراسِخَ حوالي 60.480 مترًا أي 60 كيلومترًا تقريبًا) وجَعَلوا حولَ الميْدانِ حائِطًا شُرَفُهُ مِنَ الذّهبِ والفِضّةِ وأمرَ بأَحْسَنِ الدَّوابِّ في البَرِّ والبحْرِ فَرَبَطوها عنْ يمينِ الميْدانِ ويَسارِهِ على اللَّبِناتِ، وأمرَ بأولادِ الجنِّ وهمْ خلْقٌ كثيرٌ فأُقيموا عنِ اليمنِ واليَسارِ ثمّ قعدَ على سريرِهِ والكَراسيُّ منْ جانِبَيْهِ واصْطَفَّتِ الشّياطينُ (وهمْ مُتَشَكِّلُون بصورةٍ يراها الإنسُ) صُفوفًا فَراسِخَ والإنسُ صُفوفًا فَراسِخَ والوَحْشُ (أيِ الوُحوشُ) والسِّباعُ والطّيورُ والهوامُّ كذلك، فلمّا دنا القوْمُ ورأوْا الدّوابَّ تَرُوثُ على اللَّبِنِ (منَ الذّهبِ والفِضّةِ) رَمَوْا بِما معَهُمْ مِنَ الهدايا، ولَمّا وَقَفوا بينَ يديْهِ نظَرَ إِلَيْهِمْ سُليمانُ بِوَجْهٍ طَلِقٍ فأعْطَوْهُ كتابَ المَلِكةِ فنظَرَ فيهِ وقالَ: أينَ الْحُقُّ؟ فأمر الأَرَضَةَ (الأَرَضةُ ليستْ موجودةً في كلِ البلادِ، دُوَيْبَّةٌ صغيرةٌ تَبني على السُّقوفِ بُيُوتَها مِنْ طينٍ) فأخَذَتْ شَعَرَةً ونَفَذَتْ في الدُّرَّةِ، وأخذَتْ دودَةٌ بيضاءُ الخيْطَ بِفِيها ونَفَذَتْ فيها (أيْ في الخَرَزَة أيِ اللُّؤلُؤة المثقوبَة)، ودعا بالماءِ فكانتِ الجاريةُ تأخذُ الماءَ بيدِها فتجعلُهُ في الأخرى ثم تضربُ به وجهها والغلامُ كما يأخذُهُ يضربُ به وجهَهُ، ثم ردّ الهديّةَ وقالَ للمنذِرِ: ارجِعْ إليهِم .
وبيّن لهمْ أنّ اللهَ تعالى أنعمَ عليهِ بنِعَمٍ كثيرةٍ تفوقُ بكثيرٍ ما أنعمَ عليهمْ ثمّ توَعّدَهُمْ ومَلِكَتَهُمْ بأنْ يُرسِلَ إلى بلادِهمْ بجنودٍ لا قُدْرَةَ لهمْ على قتالِهِمْ وَيُخْرِجَهُمْ منْ بلادِهِمْ أذِلّةً صاغِرينَ، يقولُ اللهُ تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا ءاتَانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا ءاتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ سورة النمل/36-37 .
ورَجَعَتْ رُسُلُ بلقيسَ إليْها وأخبرُوها بِخَبَرِ سليمانَ عليهِ السّلامُ ووَصَفُوا لَها مَا شاهدوهُ منْ عظَمَةِ مُلْكِ سليمانَ وكثْرَةِ جنودِهِ وقوّةِ بَأسِهِ وأخبَروها بأنّهُ رَدّ الهدايا إليها وأنّه مُصَمِّمٌ على غَزْوِ بلادِهِمْ بجيشٍ كبيرٍ عَرَمْرَمٍ لا قُدرَةَ لهمْ عليهِ.
وَلَمّا سَمِعَتِ الملِكَةُ بلقيسُ أخبارَ رُسُلِها عنْ سليمانَ عليهِ السلامُ وعظيمِ مُلكِهِ أيْقنَتْ بِعِظَمِ سلطانِهِ ومَهابَتِهِ وعدمِ طاقتِها على مقاومتِهِ فبعثَتْ إليهِ: "إنِّي قادمةٌ إليكَ لأنظُرَ ما تدعو إليهِ" . ثمّ أمَرَتْ بعرشِها فجُعِلَ وراءَ سبعةِ أبوابٍ ووكَّلَتْ بهِ حَرَسًا يحفظونَهُ وسارَتْ إلى سُليْمانَ عليهِ السّلامُ بجيْشٍ كبيرٍ معَ رجالِها وجماعتِها.
وذهبتْ إليه في اثنيْ عشرَ ألفِ قَيْلٍ، والقَيْلُ هو دون الملكِ تحت كلِّ واحدٍ ألوفٌ ، فلمّا بلغتْ على رأسِ فرسَخٍ من سليمانَ، وعلِمَ سليمانُ عليهِ السّلامُ بقُدومِها شَيّد لها قصرًا عظيمًا من زجاجٍ وجعلَ في ممرِّه ماءً وجعلَ عليهِ سقفًا من زجاجٍ وجعلَ فيهِ السّمكَ وغيرَه منْ دوابِّ الماءِ بحيثُ يُخيّلُ للنّاظرِ أنّه في لُجّةٍ منَ الماءِ . (أي بحرٍ من الماء). وأرادَ سليمانُ عليهِ السّلامُ أنْ يُظهرَ لبِلقيسَ من دلائلِ عظمتِهِ وسلطانِهِ ما يُبهِرُها وأنْ ترى بعينِها ما لمْ ترَهُ منْ قبلِ قطُّ وهو أنْ يأتي بعرشِها إلى قصرِهِ ليكونَ جُلوسُها عليهِ في ذلكَ الصَّرْحِ العظيمِ دليلاً باهرًا على نبوّتِهِ لأنّها خلّفتْهُ في قصرِها واحتاطتْ عليهِ .
يقول اللهُ تعالى في القرءانِ الكريمِ إخبارًا عنْ عبدِهِ ونبيِّهِ سليمانَ: ﴿قَالَ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي﴾ الآية سورة النمل ءاية: 38-39-40
العِفريتُ منْ كبارِ مَرَدَةِ الشياطينِ وهمُ الذينَ يقدِرون على حَملِ الأشياءِ الثّقيلةِ حتى أكثرُ منْ مؤمني الجنِّ ، عندهُمُ القُوّةُ أكثرُ. أرادَ سليمانُ عليهِ السّلامُ أنْ يُرِيَها بذلكَ بعضَ ما قصّهُ اللهُ تعالى بهِ من إجراءِ العجائِبِ على يدِهِ ما يشهدُ لنبُوّةِ سليمانَ، قالَ عِفريتٌ منَ الجنِّ وهو الخبيثُ المارِدُ واسمُه ذَكْوَانُ ، وقيلَ اسمُهُ صَخْرٌ (منْ تفسيرِ البَيْضاويِّ "أنوارُ التّنْزيلِ وأسرارُ التّأويلِ" عبدِ اللهِ بنِ عمرَ المتوّفى سنة 658 هـ) : "أنا ءاتيكَ بهِ قبلَ أنْ تقومَ منْ مجلِسِ حكمِكَ وقضائكَ (أيْ في مدّةٍ قصيرةٍ لا تتجاوزُ نصفَ نهارٍ ، والله أعلمُ كمْ كانتْ مدّةُ مجلِسِهِ) وآتيكَ بهِ كما هوَ لا ءاخذُ منهُ شيئًا ولا أبدِّلُهُ" . وكانَ مجلسُ سليمانَ عليهِ السلامُ في فِلِسطينَ وعرشُ بِلقيسَ في اليمَنِ في سَبَإٍ.
فقالَ سليمانُ عليهِ السّلامُ: "أريدُ أعجلَ منْ هذا" ، قالَ الذي عندَه علمٌ من الكتابِ وهو اصف بنُ برخيا كاتِبُ سليمانَ وابنُ خالتِهِ وكانَ من أولياءِ اللهِ قال: "أنا ءاتيكَ بهِ قبلَ أنْ يرتَدَّ إليكَ طرْفُكَ" أي أنّك ترسلُ طرْفَكَ إلى شىءٍ فقبلَ انْ تَرُدَّهُ أبصرْتَ العرشَ بينَ يديكَ ، وهذا غايةٌ في الإسراعِ.
ويُروى أن اصفَ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ لسيِّدنا سليمانَ عليهِ السّلامُ: "مُدّ عينيْكَ حتى ينتهي طرْفُكَ" فمدّ عينيْهِ فنظرَ نحوَ اليمَنِ فدعا اصِفُ ربّهُ، دعا الله تعالى القادر على كلِّ شىءٍ فغارَ العرشُ في مكانِهِ (أيْ سَفَلَ في الأرضِ) ثُمّ نبعَ عندَ مجلِسِ سليمانَ بقدرةِ اللهِ تعالى قبلَ أنْ يرتدّ طرْفُهُ، فلمّا رءاه سليمانُ مستقِرًّا عندَهُ قالَ: "هذا (أيْ حصولُ مرادي وهو حضورُ العرشِ قبلَ ارتدادِ الطّرْفِ) من ْ فضلِ ربِّي عليّ وإحسانِهِ إليَّ ".
وأمرَ سليمانُ عليهِ السّلامُ بِلقيسَ بدخولِ القصْرِ، فلمّا دخلتْ ورأتْ الدّلائِلَ الباهرةَ والخوارقَ العجيبةَ أعلنَتْ إسلامَها وتبرّأتْ مِمّا كانتْ عليهِ من عبادتِها للشّمسِ والقمرِ منْ دونِ اللهِ . يقول الله تعالى حكايةً عن بِلقيسَ : ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الآية . سورة النمل/44.
وبعدَ أنْ أسلمَتْ بِلقيسُ ودخلَتْ تحتَ سُلطانِ سليمانَ عليهِ السّلامُ يقالُ إنّهُ تزوّجَها وأقرّها على مَمْلَكَةِ اليمنِ.
[/size] | |
|