بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمـــة
حمداً لله، وصلاةً وسلاماً على مصطفاه، وعلى آله ومن والاه، في مبدأ الأمر ومنتهاه.
ورضي الله تعالى عن أشياخنا في الله، ورحم الله من سبقنا من إخواننا إليه، ووفق أحياءنا إلى ما يحبه ويرضاه.
أمَّا بعد:
فهذا خطاب صوفي جامع من شيخنا الإمام الرائد إلى أحد كرام مريديه، وقد كان لهذا الخطاب دويّ بالغ في الأوساط الصوفية وغيرها.
وهذا الخطاب قطعة أدبية رائعة تسري فيها روح حكم ابن عطاء الله السكندري، وعبيق رسالة الإمام الغزالي: (أيها الولد المحب)، فهو خطاب للرُّوح والوجدان.
وفي ثنايا هذا الخطاب قواعد وفوائد، وإشراقات روحية، وإشارات صوفية، يستفيد من ذلك كله الخاص والعام.
فنسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يجعلنا من عباده الصالحين.
وصَلَّى الله على سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وعلى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ
خطاب صوفي جامع
من الإمام الرائد إلى أحد كرام مريديه
.........
يا ولدي:
سألتني عن التصوف الحق، وها أنذا - بإذن الله - أكتب إليك شيئا مما يحضرني من ( هوامشه )، وأوجهك إلى بعض آفاق مشارفه، لتتعرَّف على بعض حقائقه، فأنقلُ إليك بعض ما قال رجالُه، وما بلَّغَني إليه حالُه، وما كان من فيض الحَقِّ جلَّ جلالُه. وقد يفوتني التنسيق والتزويق، ولكنني أسألُ الله ألاَّ يفوتني التحقيق والتوفيق.
"اللهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أن أتَكَلَّفَ ما لا أُحْسِنُ، أو أقُولَ ما لا أَعْلَمُ، أو أُمَارِيَ في حَقٍّ أعْتَقِدُهُ، أو أُجَادِلَ عن بَاطِلٍ أنْتَقِدُهُ، أو أَتَّخِذَ العِلْمَ صِنَاعَةً، أو الدِّينَ بِضَاعَةً، أو أَطْلُبَ الدُّنْيَا بنسْيَانِ رَبِّ الدُّنْيَا، أو أَعْمَلَ للآخِرَةِ ريَاءً وزُوراً".
يا ولدي:
قالوا: التصوفُ العملي تجربةٌ تصل بك إلى التذوق والصفاء والمشاهدة والوصول إلى سرِّ الذات، والخلافة على الأرض، وسبيله: العلم والعبادة، فلا يغني عنك فيه سواك، فإنَّه لا يمكن أن يتذوق لك منه غيرك، كما لا يمكن أن ترى بعين رجل آخر.
فهل تستطيع أن تعرف طعم " التفاح مثلاً " دون أن تمضغه بالفعل؟ وهل يكفي أن تنظر إلى العسل، أو أن تعرف مكوناته لتتمتع بحلاوته، دون أن يحتويه الفم أو يعركه اللسان ؟.
وهل يمكن أن يتحقق الشبع، أو ينطفئ العطش بالتصور والخيال دون تناول الطعام والشراب، فعلاً وواقعاً؟ طبعا: لا.
وكذلك لا يغني في هذه التجربة مجرد العلم، ولا تُوصِّل إليها دروبُ الفلسفة، فالعلم والفلسفة أعمال عقلية، وهذه التجربة من الأعمال القلبية الوجدانية، وشَتَّان ما بينهما، غير أنَّ التعبيرات الصوفية إذا عولجت بالإحساس والتعمق، والمعاناة والتذوق، كانت قادرة على تغيير الباطن الذي به يتغير الظاهر، فيولد الإنسان ولادة جديدة، كلها إشراقٌ وحبٌّ وبركة وإنتاج.. هكذا قال الشيوخ!
أمَّا مجرد قراءة كتب التصوف بلا معاناة، فهذه متعة ذهنية، وثقافة عقلية، وقد تشارك فيها النفس الأمارة بالسوء، فتكون طريقاً إلى الضلالة طرداً أو عكسا.
أمَّا المنح الرُّوحية، والإشراقات القلبية، فهي نتيجة الجهود والأعمال، فالصوفية أرباب أحوال، لا أصحاب أقوال، ولم ينل المشاهدة مَنْ ترك الْمُجَاهَدة.
يا ولدي:
إنَّ التصوف خدمة تتكيف بحاجة كل عصر، وكل إنسان، وكل وطن، فهي تجسيد شامل لعملية الاستخلاف على الأرض، ثم إنَّ الهداية أيضاً: جهد ومعاناة، والشيخ دليل فقط، فمَنْ لم يَسْعَ لم يصل، ومَنْ لم يلتمس المعارج لا يتسامى ولا يرتقي، ومَنْ لم يتحرك لم ينتقل، ومن اعتمد على ما عنده وحده اغترَّ، فتَاهَ وضَلَّ.
وفي ذلك أقول:
يقول: هل اتخاذ الشيـــخ محتومٌ على القاصد ؟
فقلتُ: وهل تربى قـــــط مولودٌ بلا والد ؟
وهل يُتمُ اليتيم كفا هُ فاستغنى عن الرافد ؟
وهل أبصرتَ مكفو فاً ولا يحتاج للقائـد ؟
وهل علمٌ ، وهل فــــنٌ بغير المرشد الراشد ؟
وكيف يسير في الصحــرا غريبٌ ؟ أعزلٌ وافد ؟
وبابُ الله مفـتوحٌ ولكن من هـو الرائد ؟
تأمل ما أتى موسى وقصــته مـع العابد
تأمل بعثة الهــاد ي ففيها الشـاهد الخالد
يا ولدي:
إنَّ نسبَكَ إلى الله أصَحُّ من نسبِكَ إلى أبيك.
ثُمَّ إنَّهُ مَنْ استأذن على الله أذن له، ومن قرع بابه تعالى أدخله، ونحن إنما نشير إلى الحقيقة، ونُبَيِّنُ السبيل، ونَدَعُ المريدَ الصادق ليصل إلى غاية الطريق بجهده، فليس شيخُكَ من سمعتَ منه، ولكن شيخك من أخذتَ عنه، ومن جاهد: عدل، ومن اجتهد: وصل.
يا ولدي:
الشَّريعةُ جاءت بتكليف الخَلْقِ، والحَقِيقَةُ جاءت بتعريف الحَقِّ.
فالشَّريعَةُ أن تَعْبُدَهُ، والطريقةُ أن تَقْصِدَهُ، والحقيقةُ أن تَشْهَدَهُ.
ثُمَّ إنَّ الشَّريعَةَ قيامٌ بما أمر به وبصَّر، والحقيقةَ شهودٌ لما قضى وقدَّر.
وهذا رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: الشَّريعةُ أقوالُهُ، والطَّرِيقَةُ أفعالُهُ، والحقيقَةُ أحوالُهُ.
فشريعَةٌ بلا حقيقة: عاطلة، وحقيقةٌ بلا شريعة: باطلة، ولهذا قالوا: "من تشَرَّع ولم يتحقَّق فقد تعوَّق أو تفسَّق، ومن تحقَّق ولم يتشرع فقد تهرطَقَ أو تزندق".
واعلم - يا ولدي - أنَّ الشريعةَ ليست إلا الحقيقة، والحقيقة ليست إلا الشريعة، فهما شيءٌ واحد، لا يتمُّ أحَدُ جزأيه إلاَّ بالآخر، وقد جمع الحقُّ تعالى بينهُمَا، فمحالٌ أن يفرق إنسان ما جمع الله.
ثُمَّ تأمل - يا ولدي - قولك (لا إله إلاَّ الله) هذه حقيقة، (مُحَمَّدٌ رسُولُ الله) هذه شريعة. فلو فرَّق بينهما أحدٌ هَلَكَ، فإن من ردَّ الحقيقة: أشْرَك، ومن ردَّ الشريعة: ألْحَد.
ثُمَّ تأمَّلْ قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} تجد الشريعة، {وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} تجد الحقيقة، وهما شيءٌ واحد يستحيل طرح أحد جزئيه.. عبادةُ العبد: ظاهر الأمر، وإعانة الله: باطِنُهُ، ولا بُدَّ لكل ظاهر من باطن، كالرُّوح في الجَسَد، والماء في العود.
الحقيقة من الشَّريعَةِ، كالثَّمَرَةِ من الشَّجَرة، والأريج من الزَّهْرة، والحرارة من الجمرة، فلا بُدَّ من هذه لتلك، فاستحال قيام حقيقة بغير شريعة.
يا ولدي:
انظر بعين عقلك وقلبك إلى هذا الدُّعَاء، الذي يناجي به أحَدُ العارفين من أشياخنا ربَّه فيقول:
"إلهي: إذا طلبْتُ منك الدُّنْيَا فقد طلبْتُ غَيْرَكَ، وإذا سألتكَ ما ضَمِنْتَ لي فقد اتَّهَمْتُكَ، وإنْ سَكَنَ قلبي إلى غَيْرِكَ فقد أشْرَكْتُ بِكَ!!.
جَلَّتْ أوصَافُكَ عن الحُدُوثِ فكيف أكون مَعَك؟.
وَتَنَزَّهَتْ ذاتُكَ من العلل، فكيف أكونُ قريباً بذاتي منك؟! وتعاليْتَ عن الأغيار، فكيف يكون قوامي بغَيْرِك؟!".
إنَّه كلامٌ كأنَّه صدىً من روح القُدُس، وكأنَّما اقتبسه الشيخ من ألحان الذين يحملون العرش، ومَن حوله، ومن تسابيح الأرواح المهيَّمَة بآفاق الملأ الأعلى، كلامٌ فيه رائحة مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واقتباسٌ من أضواء سدرة المنتهى، وملامح من صدى الحقيقة والشريعة.
إنَّ التصوف - عندنا - هو (علم فقه المعرفة)، فهو تصحيح الإسلام، وتحقيق الإيمان، وتأكيد الإحسان.
ومن هنا كان واجباً، لا يمكن تحصيله بمجرد القراءة، ويبدو ذلك واضحاً في هؤلاء الذين يدرسون التصوف علماً، ولا يمارسونه عملاً!! وهم يحملون أعلى الألقاب العلمية، وكان يسميهم والدي " عربات النقل البشرية " أو " سعاة بريد المعرفة "، إنَّما التَّصوف رفعُ الأستار عن أسرار الكونيات، لإدراك أنوار شموس الحقائق، فلا بد - مع العلم - من المعاناة والممارسة.
والتصوف: التقوى، والتصوف: التزكية، وهما مقام يجمع الخوف والرجاء، وينهض بالعقيدة والخُلُق، وبه تتحقق إنسانية الإنسان، وإنَّه ما من آية في القرآن إلا وهي تربط الدنيا بالآخرة، وتجعلها وسيلة إليها، من باب التقوى وطريق التزكية .
ألم يقل الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى}، و{قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا}. ألم يكن مِنْ سِرِّ الرِّسَالات: التزكية {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ}.
نعم: التَّصَوفُ أدب، فالعقيدة أدب، والعبادة أدب، والمعاملة أدب.
وهنا يصل العبد إلى رتبة ( الربَّانية ) بالعلم والدرس والممارسة: {وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ}.