من فرائد ابن عاشور قوله تعالى: (رُدُّوهَا عَلَيَّ ۖ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ)
توجيه وجوه تفسير حكاية الله تعالى مقولة سليمان عليه السلام: {رُدُّوهَا عَلَيَّ ۖ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص:33]
بعد أن نقل ما ورد عن ابن عباس والزهري وابن كيسان وقطرب أن المعنى “طفق يمسح أعراف الخيل وسوقها بيده حباً لها”، علق الإمام ابن عاشور قائلاً:
“وهذا هو الجاري على المناسب لمقام نبيء، والأوفق بحقيقة المسح”.
ثم بين ما يقتضيه هذا القول إذ قال:”ولكنه يقتضي إجراء ترتيب الجمل على خلاف مقتضى الظاهر بأن يكون قوله {رُدُّوهَا عَلَيَّ ۖ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} متصلاً بقوله {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ} أي بعد أن استعرضها وانصرفوا بها لتأوي إلى مذاودها قال {رُدُّوهَا عَلَيَّ ۖ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} إكراماً لها ولحبها، ويجعل قوله {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} معترضاً بينهما”.
ثم بين فائدة تقديم هذا القول المعترض بقوله:”وإنما قُدم للتعجيل بذكر ندمه على تفريطه في ذكر الله في بعض أوقات ذكره، أي أنه لم يستغرق في الذهول بل بادر الذكرى بمجرد فوات وقت الذكر الذي اعتاده، إذ لا يناسب أن يكون قوله {رُدُّوهَا عَلَيَّ ۖ فَطَفِقَ …} الخ من آثار ندمه وتحسره على هذا التفسير، وهذا يفيد أن فوات وقت ذكره نشأ عن ذلك الرد الذي أَمر به بقوله {رُدُّوهَا عَلَيَّ ۖ} فإنهم اعتادوا أن يعرضوها عليه وينصرفوا وقد بقي ما يكفي من الوقت للذكر، فلما حملته بهجته بها على أن أَمر بإرجاعها واشتغل بمسح أعناقها وسوقها خرج وقت ذكره فتندم وتحسر “.
ثم نقل الإمام ما ورد عن الحسن وقتادة ومالك بن أنس في رواية ابن وهب والفراء وثعلب “أن سليمان لما ندم على اشتغاله بالخيل حتى أضاع ذكر الله في وقت كان يذكر الله فيه أَمر أن تُرد عليه الخيل التي شغلته فجعل يعرقب سوقها ويقطع أعناقها لحرمان نفسه منها مع محبته إياها توبة منه وتربية لنفسه”،
إلا أنه أورد ما استُشكل على هذا التفسير: “واستشعروا أن هذا فساد في الأرض وإضاعة للمال”، وأتبعه بنقل جواب هذا الاستشكال فقال: “فأجابوا: بأنه أراد ذبحها ليأكل الفقراء لأن أكل الخيل مباح عندهم وبذلك لم يكن ذبحها فساداً في الأرض”.
ثم ذكر رأي من لم ير هذا الوجه فقال:”وتجنب بعضهم هذا الوجه وجعل المسح مستعاراً للتوسيم بسمة الخيل الموقوفة في سبيل الله بكي نار أو كشط جلد لأن ذلك يزيل الجلدة الرقيقة التي على ظاهر الجلد، فشبهت تلك الإزالة بإزالة المسح ما على ظهر الممسوح من ملتصق به”،
وعلق على هذا التفسير بقوله: “وهذا أسلم عن الاعتراض من القول الأول، وهو معزو لبعض المفسرين في أحكام القرآن لابن العربي…”
وختم تعليقه بقوله:”وهذه طريقة جليلة من طرائق تربية النفس ومظاهر كمال التوبة بالنسبة إلى ما كان سبباً في الهفوة”.