تعدد المساوئ الخلقية وتتنوع بحسب نوعها ، وبحسب مصادرها وفداحتها وعقوبتها . ولكثرتها فإنه يصعب أن يلم بها سفر واحد ، ولكل مرض علاج ، عرفه من عرفه وجهله من جهله ، والعلاج تضمنه المنهج الإسلامى من توجيهات وإرشادات تحى القلوب الميته ، لتمارس الحياة بفضائل الأخلاق ، وتتعمر الأرض بالخير والصلاح ، نتناول أحد هذه المساوئ وهو الحسد .
المعنى اللغوي : قال الأصفهاني : الحسد : تمنى زوال نعمة الغير من مستحق لها ، وربما كان مع ذلك سعى فى إزالتها .
المعنى الإصطلاحى : قال ابن حجر : الحسد هو تمنى زوال النعمة من المنعم عليه . وقال الدمشقي : هو تمنى زوال النعمة عن المحسود وهو الداء العضال الذى إبتلى به كثير من الناس .
فهناك توافق بين المدلول اللغوي والإصطلاحى فى تعريف الحسد ، فهو داء يصيب النفس فيؤلمها برؤية نعم الله على خلقه أو بعض خلقه ، فينعكس على تصرفات الحاسد مع الناس بكُره من أنعم الله عليهم ، وإذا تفاقم الأمر لديه ووصل الحسد إلى ذروته ، تمنى زوال النعمة عنهم ، وربما سعى لإزالتها ، ففساده على النفس كبير ، وشره على المجتمع مستطير ، ووباله خسران مبين، فهو باب لتمزيق العلاقات وتفتيت الصداقات وأواصر المحبة والصلات بين الناس، ودافع للشحناء والبغضاء
إن الحسد مركوز فى طباع البشر فهو يؤدى إلى التنافس إذا كان من نوع الغبطة ، ولم يتجاوز حدوده . فهو إذا تجاوز حدود دائرته أصبح حسداً ، وإذا نقص أصبح بلادة وبرودة وجبناً ، وإذا إنحصر فى محيط دائرته أصبح غبطة مقبولة بناءة .
إن الناس فى الحسد تنقسم إلى أقسام بحسب درجته التى تلتهب فى النفس فينعكس على السلوك والتصرفات ، ويمكن تقسيم الحسد إلى أربعة أقسام:-
اولا: أن يكره الإنسان رؤية النعمة على أخيه المسلم ويتخذ هذا القسم ثلاث صور .
(أ) أن يحب الحاسد زوال نعمة من نعم الله عن المحسود ، كارهاً لوجودها وتنعمه بها ، دون أن يتمنى إنتقالها إليه .
(ب) وقد يتخذ البعض الأساليب والأسباب التى تزيل تلك النعمة فمنهم من يسعى فى زوال نعمة المحسود بالبغى عليه بالقول والفعل .
(ج) ومن الناس من يتمنى أن تزول النعمة من المحسود وتنتقل إليه .
وهذه صور الحسد المذموم المنهى عنها .
ثانيا: إن يرى الإنسان النعمة على أخيه ولا يتمنى زوالها ، ولكن يتمنى أن يكون له مثلها ، وهذا يسمى حسد الغبطة ، والغبطة : هى رغبة فى النفس أن يكون لها مثل ما لغيرها ، وهى ممدوحة أيضاً ، لأنها تنتهى غالباً بالمنافسة إذا صحبتها العزيمة وحب العمل . قال ابن حجر : وهى أن يتمنى أن يكون له مثل ما لغيره من غير أن يزول عنه والحرص على هذا يسمى منافسة ، فإن كان فى الطاعة فهو محمود ، ومنه : [ وفى ذلك فليتنافس المتنافسون ] . وإن كان فى المعصية فهو مذموم ومنه [ولا تنافسوا ] وإن كان من الجائزات فهو مباح .
ثالثا:حسد مطلوب : وهو الحسد الذى يرفع به الإنسان للتنافس فى طاعة الله تعالى ، قال صلى الله عليه وسلم [ لا تحاسد إلا فى أثنين : رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار فهو يقول لو أوتيت مثل ما أوتى هذا لفعلت كما يفعل ، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه فى حقه فيقول : لو أوتيت مثل ما أوتى ، عملت فيه مثل ما يعمل ] وسمى حسداً فى باب الإستعارة ، وأطلق الحسد عليه مجازاً ، فهذا حسد منافسه يطالب الحاسد به نفسه أن يكون مثل المحسود ، لا لحسد مهانه يتمنى به زوال النعمة عن المحسود . وقسم آخر إذا وجد فى نفسه الحسد ، سعى فى إزالته ، وفى الإحسان إلى المحسود ، بإبداء الإحسان إليه ، والدعاء له ، ونشر فضائله ، وفى إزالة ما وجد له فى نفسه فى الحسد ، حتى يبدله بمحبته أن يكون المسلم خيراً منه وأفضل ، وهذا من أعلى درجات الإيمان .
وأعلم أن الحسد يهيج خمسة أشياء :
أحدهما فساد الطاعات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ]
والثانى فعل المعاصى والشرور على ما قال وهب بن منبه رحمه الله : للحاسد ثلاث علامات يتملق إذا شهد ويغتاب إذا غاب ويشمت بالمصيبة إذا نزلت وحسبك أن الله أمرنا بالإستعاذة من شر الحاسد فقال سبحانه : [ومن شر حاسدٍ إذا حسد ] كما أمرنا بالإستعاذة من شر الشيطان والساحر حتى أن لا مستعان عليه ولا مستعاذ إلا بالله رب العالمين .
والثالث التعب والهم من غير فائدة بل مع ذلك وزر ومعصية كما قال ابن السماك رحمه الله : لم أر ظالماً أشبه بالمظلوم من الحاسد نفس دائم وعقل هائم وغم لازم .
والرابع عمى القلب حتى لا يكاد يفهم حكماً من أحكام الله عز وجل . فلقد قال سفيان الثورى رحمه الله : عليك بطول الصمت تملك الورع ولا تكن حريصاً على الدنيا تكن حافظاً ولا تكن طعاناً تنبح من السن الناس ولا تكن حاسداً تكن سريع الفهم .
والخامس الحرمان والخزلان ولا يكاد يظفر بمراد وينصر على أعدائه ، والحسود كيف يظفر بمراده ومراده زوال نعم الله تعالى عن عباده المسلمين وكيف ينصر على أعدائه وهم عباد الله المؤمنين ولقد أحسن من قال اللهم صبرنا على تمام النعم على عبادك وحسن أقوالهم وأنه داء يفسد عليك الطاعة ويكثر شرك ومعصيتك ويمنعك راحة النفس وفهم القلب والنصرة على الأعداء والظفر بالمطلوب فأى داء يكون أدوأ منه فعليك بمعالجة نفسك من ذلك
قال الشاعر :-
دع الحسود وما يلقاه من كمد * كفاه لهيب النار فى كبد
إن لمت ذا حسدٍ نفست كربته * وإن سكت فقد عذبته بيد
وقال آخر :-
إلا قل لمن يأت لى حاسداً * أتدرى على من أسأت الأدب
أسأت على الله فعلـــه * إذ لم ترص لى ما وهــب
فجازاك عنـه بأن زادنى * وسد عنك وجوه الطلـــب
اللهم اجعل فى قلوبنا نوراً نهتدى به إليك ، وتولنا بحسن رعايتك حتى نتوكل عليك ، وارزقنا حلاوة التذلل بين يديك ، فالعزيز من لاذ بعزك، والسعيد من إلتجأ إلى حماك وجوارك والذليل توده بعنياتك والشقى من رضى بالإعراض عن طاعتك والحكم حكمك فما تغنى الحيل ، والأمر أمرك ، فإليك تحقق الأمل .
اللهم نزه قلوبنا عن التعلق بمن دونك ، واجعلنا من قومٍ تحبهم ويحبونك ، اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين .
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى اله واصحابه