يقول الحق( تبارك وتعالي) في محكم كتابه:
(وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلي ثمرة إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون)( الأنعام:99).
والتسلسل في استعراض الحبوب والثمار في هذه الآية الكريمة يشمل معظم النباتات التي يحتاجها الانسان في طعامه الأساسي، وتحتاجها أنعامه في علفها.
فالحب المتراكب: يشمل القمح، والشعير، والذرة، والأرز، والشوفان، وغيرها من محاصيل الحبوب والغلال التي تمثل الطعام الأساسي لكل من الانسان والحيوان. وهذه النباتات تجمع اليوم في رتبة واحدة تعرف باسم النجيليات، وفي عائلة محددة منها تعرف باسم العائلة النجيلية.
والنجيليات تضم أعشابا حولية أو معمرة لها شكل مميز يطلق عليه الشكل النجيلي أي الذي يشبه النجيل، وإن ضمت قليلا من الشجيرات، وأزهارها تلقح بواسطة الرياح. وسيقانها غالبا اسطوانية، جوفاء، فيما عدا القليل منها مثل الذرة الذي يتميز بساق أصم.
وينطوي في العائلة النجيلية على عشرات الآلاف من الأصناف، ولذلك تعتبر من أهم عائلات النبات من الوجهة الاقتصادية لاحتوائها علي النباتات المنتجة لمحاصيل الغلال ذات الحبوب المتراكبة( في السنابل)، وعلي غيرها من المحاصيل الاقتصادية مثل قصب السكر، والغاب، والأعشاب الطبية، وحشائش الرعي.
والحبوب المتراكبة في العائلة النجيلية هي من ذوات الفلقة الواحدة، وكما خلق الله( تعالي) تلك الحبوب التي تمثل المحاصيل الأساسية لغذاء مختلف شعوب الأرض، خلق لنا حبوبا أخري غير متراكبة ذات فلقتين توجد ثمارها في قرون بدلا من السنابل ولذا توضع في عائلة من عائلات النبات تعرف باسم العائلة القرنية تضمومئات الآلاف من الأصناف، ومن أهم محاصيلها الفول، الحمص، العدس، الفاصوليا، اللوبيا، البازلاء، فول الصويا,، الفول السوداني، الترمس، الحلبة، والبرسيم.
ومن نماذج العائلة النخيلية: نخيل التمر، نخيل جوز الهند, نخيل الزيت، ونخيل الخيزران، ونخيل الأريكا، والنخيل الملوكي، وأهمها علي الإطلاق نخيل التمر، لأن التمر يعد غذاء كاملا تقريبا للانسان .
ويلي ذلك في تصنيف النباتات رتبة العنابيات وتضم عائلتين هما العائلة العنابية، وتتميز هذه العائلة بنباتاتها المتسلقة, وبراعمها الطرفية المحورة إلي محاليق, وجاء ذكر العنب والأعناب في القرآن الكريم احدي عشرة مرة لأهميتها الغذائية الغالية.
ويلي ذلك في تصنيف النباتات رتبة الملتفات أهمها اشجار الزيتون, و هي أشجار معمرة تعيش الواحدة منها إلي أكثر من ألفي سنة, وقد ثبت علميا أن زيت الزيتون يحتوي علي أحماض دسمة غير مشبعة, وهي مفيدة في الوقاية من العديد من الأمراض مثل جلطات الدم التي تتسبب في حدوث أمراض الشرايين الاكليلية في القلب, كذلك ثبت علميا أن بزيت الزيتون أكثر من ألف مركب كيميائي منها ما يعدل الكولسترول في أثناء استقلابه في الجسم, ومنها ماينقص مستوي الكولسترول الضار ويرفع مستوي الكولسترول المفيد, ويشكل زيت الزيتون حوالي70% من تركيب الثمرة .
امتدح خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم) كلا من الزيتون وزيته, فقال: ائتدموا بالزيت وادهنوا به, فإنه يخرج من شجرة مباركة أخرجه كل من ابن ماجه, وعبد الرزاق, والحاكم وغيرهم وورد في صحيح الجامع الصغير).
ووصف ابن عباس( رضي الله عنهما) الزيتون بقوله: في الزيتونة منافع، يسرج الزيت، وهو إدام ودهان واصباغ، ووقود يوقد بحطبه وتفله، وليس فيه شيء إلا وفيه منفعة، حتي الرماد يغسل به الابريسم( وهو الحرير)...
وقد أفردت شجرة الزيتون بالذكر في القرآن الكريم سبع مرات لعظيم منافعها، ولقلة ما تحتاجه من رعاية وعناية من الزراع.
ويلي ذلك في تصنيف النباتات رتبة تعرف باسم رتبة المرسينيات ،أهمها العائلة الرمانية التي تشمل أشجارا صغيرة( شجيرات) تضم جنسا واحدا هو الرمان وله نوعان هما الرمان ، وقد جاء ذكر الرمان في القرآن الكريم ثلاث مرات إشارة إلي أهميته في غذاء الانسان, منها مرتان في سورة الأنعام, والثالثة في سورة الرحمن.
وهكذا نري أنه في كلمات محددة جاء هذا التسلسل المعجز من الحب المتراكب إلي ثمار كل من النخل والأعناب والزيتون والرمان ليجمع كل أنواع الغذاء الأساسي للانسان ولأنعامه، وذلك لأن باقي النباتات الراقية المعروفة لنا إما تنتج فاكهة وخضراوات من كماليات الطعام، أو هي نباتات الزينة، أو الظل، أو الأخشاب، أو الأعشاب وهي ـ علي أهميتها ـ ليست من الضروريات الملحة لحياة الانسان وأنعامه.
ويأتي الوصف القرآني لتلك النباتات بالتعبير المعجز مشتبها وغير متشابه ليعبر عن حقيقة التنوع الهائل الذي وهبه الله( تعالي) لتلك النباتات، حيث ينقسم كل جنس من أجناسها إلي العديد من الأنواع، وتنقسم الأنواع إلي العديد من الأصناف، ويضم كل صنف من هذه الأصناف بلايين البلايين من الأفراد التي تكاثرت ولاتزال تتكاثر وسوف تظل كذلك إلي أن يرث الله( تعالي) الأرض ومن عليها. وأفراد كل نوع من أنواع النبات تبدو في ظاهرها متشابهة، ولكن بدراستها المتخصصة يتضح ما بينها من الفرق بما يستوجب فضلها عن بعضها البعض، وهنا تتضح روعة التعبير القرآني( مشتبها وغير متشابه).
ويأتي بعد ذلك تنبيه من الله الخالق بالنظر إلي ثمار النباتات وقت إثمارها وحين نضجها( انظروا إلي ثمره إذا أثمر وينعه)، وفي هذا النص سبق علمي أصيل يشير إلي ضرورة الاعتماد علي مشاهدة الشكل الخارجي لمختلف أجزاء النبات في جميع أطوار نموه حتي يمكن التعرف عليه وتصنيفه، وهي من القواعد الأساسية اليوم في علم النبات، وفي النص أيضا إشارة إلي فضل الله العظيم في انتاج تلك الثمار وإلي أهميتها لحياة النبات نفسه ولحياة كل من الانسان والحيوان آكل العشب. وذلك لأن الثمرة الحقيقية هي مبيض الزهرة بعد تمام اخصابه بحبوب اللقاح وتكون الجنين الذي يحاط بأغلفة نباتية من المواد الغذائية لحمايته قبل الإنبات، ولتغذيته في مراحل الانبات الأولي حتي تورق النبتة الأوراق الخضراء القادرة علي القيام بعملية التمثيل الضوئي وإعداد الغذاء الخاص للنبات. وعلي ذلك فالثمار مهمة لجميع النباتات العليا لاحتوائها علي البذور التي بها يمكن للنبات أن يستمر في الوجود والتكاثر علي الأرض إلي أن يشاء الله( تعالي).
والثمار مهمة للانسان لأنها تمثل غذاءه الرئيسي وعلف أنعامه، كما تمثل مصدرا أساسيا من مصادر الدواء، والكساء ومواد الصباغة، وغيرها من الصناعات الأساسية في حياة الناس.
وثمار النباتات من أجل نعم الله علي الانسان، وتحركها من بدء ظهورها علي النبات إلي نضجها، وما يعتريها خلال تلك الفترة من نمو في الحجم، واختلاف في اللون، وتدرج في الطعم والمذاق بما يشهد لله الخالق بطلاقة القدرة علي الخلق والافناء والبعث، ولذلك ختمت الآية الكريمة بقول الحق( تبارك وتعالي): إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون.
هذا السبق القرآني يعرض قدرا من حقائق عالم النبات قبل أن يصل إليها علم الانسان بقرون متطاولة بما يشهد للقرآن الكريم أنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم انبيائه ورسله ليكون للعالمين نذيرا، فصلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين، والحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا علي نعمة الإسلام، وعلي نعمة القرآن وعلي نعمة الثمار وغيرها من الأرزاق.