بيان
قد عرفت أن قوله تعالى: و ما كنتم تكتمون، فيه دلالة على وقوع أمر مكتوم ظاهر بعد أن كان مكتوما، و لا يخلو ذلك عن مناسبة مع قوله: أبى و استكبر و كان من الكافرين حيث لم يعبر أبى و استكبر و كفر، و عرفت أيضا أن قصة السجدة كالواقعة أو هي واقعة بين قوله تعالى: إني أعلم ما لا تعلمون، و قوله: و أعلم ما تبدون و ما كنتم تكتمون، فقوله تعالى: و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، كالجملة المستخرجة من بين الجمل ليتخلص بها إلى قصة الجنة، فإن هذه الآيات كما عرفت إنما سيقت لبيان كيفية خلافة الإنسان و موقعه و كيفية نزوله إلى الدنيا و ما يئول إليه أمره من سعادة و شقاء، فلا يهم من قصة السجدة هاهنا إلا إجمالها المؤدي إلى قصة الجنة و هبوط آدم هذا، فهذا هو الوجه في الإضراب عن الإطناب إلى الإيجاز، و لعل هذا هو السر أيضا في الالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله تعالى: و إذ قلنا للملائكة اسجدوا، بعد قوله: و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل.
و على ما مر فنسبة الكتمان إلى الملائكة و هو فعل إبليس بناء على الجري على الدأب الكلامي من نسبة فعل الواحد إلى الجماعة إذا اختلط بهم و لم يتميز منهم، و يمكن أن يكون له وجه آخر، و هو أن يكون ظاهر قوله تعالى: إني جاعل في الأرض خليفة، إطلاق الخلافة حتى على الملائكة كما يؤيده أيضا أمرهم ثانيا بالسجود، و يوجب ذلك خطورا في قلوب الملائكة، حيث إنها ما كانت تظن أن موجودا أرضيا يمكن أن يسود على كل شيء حتى عليهم، و يدل على هذا المعنى بعض الروايات كما سيأتي.
و قوله تعالى: اسجدوا لآدم، يستفاد منه جواز السجود لغير الله في الجملة إذا كان تحية و تكرمة للغير و فيه خضوع لله تعالى بموافقة أمره، و نظيره قوله تعالى في قصة يوسف (عليه السلام) «و رفع أبويه على العرش و خروا له سجدا قال: يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا»: يوسف - 100، و ملخص القول في ذلك أنك قد عرفت في سورة الفاتحة أن العبادة هي نصب العبد نفسه في مقام العبودية و إتيان ما يثبت و يستثبت به ذلك فالفعل العبادي يجب أن يكون فيه صلاحية إظهار مولوية المولى أو، عبدية العبد كالسجود و الركوع و القيام أمامه حينما يقعد، و المشي خلفه حينما يمشي و غير ذلك، و كلما زادت الصلاحية المزبورة ازدادت العبادة تعينا للعبودية، و أوضح الأفعال في الدلالة على عز المولوية و ذل العبودية السجدة، لما فيها من الخرور على الأرض، و وضع الجبهة عليها، و أما ما ربما ظنه بعض: من أن السجدة عبادة ذاتية، فليس بشيء، فإن الذاتي لا يختلف.
و لا يتخلف و هذا الفعل يمكن أن يصدر بعينه من فاعله بداع غير داع التعظيم و العبادة كالسخرية و الاستهزاء فلا يكون عبادة مع اشتماله على جميع ما يشتمل عليه و هو عبادة نعم معنى العبادة أوضح في السجدة من غيرها، و إذا لم يكن عبادة ذاتية لم يكن لذاته مختصا بالله سبحانه، بناء على أن المعبود منحصر فيه تعالى، فلو كان هناك مانع لكان من جهة النهي الشرعي أو العقلي و الممنوع شرعا أو عقلا ليس إلا إعطاء الربوبية لغيره تعالى، و أما تحية الغير أو تكرمته من غير إعطاء الربوبية، بل لمجرد التعارف و التحية فحسب، فلا دليل على المنع من ذلك، لكن الذوق الديني المتخذ من الاستيناس بظواهره يقضي باختصاص هذا الفعل به تعالى، و المنع عن استعماله في غير مورده تعالى، و إن لم يقصد به إلا التحية و التكرمة فقط، و أما المنع عن كل ما فيه إظهار الإخلاص لله، بإبراز المحبة لصالحي عباده أو لقبور أوليائه أو آثارهم فمما لم يقم عليه دليل عقلي أو نقلي أصلا، و سنعود إلى البحث عن هذا الموضوع في محل يناسبه إن شاء الله تعالى.
بحث روائي
في تفسير العياشي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما أن خلق الله آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له فقالت الملائكة في أنفسها: ما كنا نظن أن الله خلق خلقا أكرم عليه منا فنحن جيرانه و نحن أقرب الخلق إليه. فقال الله: أ لم أقل لكم إني أعلم ما تبدون و ما كنتم تكتمون، فيما أبدوا من أمر بني الجان و كتموا ما في أنفسهم، فلاذت الملائكة الذين قالوا ما قالوا بالعرش.
و في التفسير، أيضا عن علي بن الحسين (عليهما السلام): ما في معناه و فيه: فلما عرفت الملائكة أنها وقعت في خطيئة لاذوا بالعرش، و أنها كانت عصابة من الملائكة و هم الذين كانوا حول العرش، لم يكن جميع الملائكة إلى أن قال: فهم يلوذون حول العرش إلى يوم القيامة.
أقول: يمكن أن يستفاد مضمون الروايتين من قوله حكاية عن الملائكة: و نحن نسبح بحمدك و نقدس لك إلى قوله: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
و سيجيء أن العرش هو العلم، و بذلك وردت الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فافهم ذلك، و على هذا كان المراد من قوله تعالى: و كان من الكافرين، قوم إبليس من الجان المخلوقين قبل الإنسان.
قال تعالى: «و لقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون و الجان خلقناه من قبل من نار السموم»: الحجر - 27، و على هذه الرواية فنسبة الكتمان إلى جميع الملائكة لا تحتاج إلى عناية زائدة، بل هي على حقيقته، فإن المعنى المكتوم خطر على قلوب جميع الملائكة، و لا منافاة بين هذه الرواية و ما تفيد أن المكتوم هو ما كان يكتمه إبليس من الإباء عن الخضوع لآدم، و الاستكبار لو دعي إلى السجود، لجواز استفادة الجميع كما هو كذلك.
و في قصص الأنبياء، عن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): سجدت الملائكة و وضعوا أجباههم على الأرض؟ قال: نعم تكرمة من الله تعالى.
و في تحف العقول، قال: إن السجود من الملائكة لآدم إنما كان ذلك طاعة لله و محبة منهم لآدم.
و في الاحتجاج، عن موسى بن جعفر عن آبائه: أن يهوديا سأل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن معجزات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقابلة معجزات الأنبياء، فقال: هذا آدم أسجد الله له ملائكته، فهل فعل بمحمد شيئا من هذا؟ فقال علي: لقد كان ذلك، و لكن أسجد الله لآدم ملائكته، فإن سجودهم لم يكن سجود طاعة أنهم عبدوا آدم من دون الله عز و جل، و لكن اعترافا لآدم بالفضيلة و رحمة من الله له و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أعطي ما هو أفضل من هذا، إن الله جل و علا صلى عليه في جبروته و الملائكة بأجمعها، و تعبد المؤمنون بالصلاة عليه فهذه زيادة له يا يهودي.
و في تفسير القمي،: خلق الله آدم فبقي أربعين سنة مصورا، و كان يمر به إبليس اللعين فيقول: لأمر ما خلقت؟ فقال: العالم» فقال إبليس: لئن أمرني الله بالسجود لهذا لعصيته» إلى أن قال: ثم قال الله تعالى للملائكة: اسجدوا لآدم فسجدوا فأخرج إبليس ما كان في قلبه من الحسد فأبى أن يسجد.
و في البحار، عن قصص الأنبياء، عن الصادق (عليه السلام) قال: أمر إبليس بالسجود لآدم فقال: يا رب و عزتك إن أعفيتني من السجود لآدم لأعبدنك عبادة ما عبدك أحد قط مثلها، قال الله جل جلاله: إني أحب أن أطاع من حيث أريد و قال: إن إبليس رن أربع رنات: أولهن يوم لعن، و يوم أهبط إلى الأرض، و يوم بعث محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) على فترة من الرسل، و حين أنزلت أم الكتاب، و نخر نخرتين: حين أكل آدم من الشجرة، و حين أهبط من الجنة، و قال في قوله تعالى: فبدت لهما سوآتهما، و كانت سوآتهما لا ترى فصارت ترى بارزة، و قال الشجرة التي نهي عنها آدم هي السنبلة.
أقول: و في الروايات - و هي كثيرة - تأييد ما ذكرناه في السجدة.