الشريعة
الشريعة هي مدخل الدين. هي المدخل الرئيسي لحظيرة الدين. وليس من سبيل آخر للدخول في الدين غير الابتداء بالعمل بها.
من أنكر أو فرّط أو تهاون في الالتزام بركن من أركانها فهو خارج الدين. ومن يعمل بها ويلتزم أركانها بلا زيادة أو نقص، فإنه واقف على عتبة الدخول إلى الدين. تقول: شرع شريعة إلى الماء؛ أي اتخذ طريقاً إليه. و المكان الذي يقف فيه من يود أن يرد الماء أو أن يستقل مركباً يعبر به إلى شاطئ آخر: يسمى: مُشرع.
فالشريعة هي الطريق الوحيد الذي يتخذه العباد في سبيل الدخول إلى الدين. الشريعة هي الدين ولكن ليست هي جماع الدين , و إنما هي طرف البداية للدين مما يلي العباد . أما جماع الدين, أو قل: طرف النهاية للدين إنما هي عند {الله} ألعلي العزيز القدير.
قال تبــارك وتعالى:
{ إن الدّين عند الله الإسلام }
[19 آل عمران]
وبداية الإسلام هي الشريعة. هي الفروض والأركان التي وُضعت كحدٍ أدنى لتنظيم حياة الناس: علماً، وعملاً بمقتضى العلم ،و على قدر العقلية السائدة وإمكانية التطبيق المتاحة. يتخذها الناس منهاجاً لتنظيم وترشيد حياتهم النفسية، الجسدية، الفكرية، السياسية، الاقتصادية و الاجتماعية.
والشريعة تعتمد ظاهر العمل وفق متطلبات مستوى الإسلام في طرف البداية. فمن شهد قولا باللسان أنه {لا إله إلاّ الله} وأن محمداً رسول {الله} وأقام الصّلاة وآت الزكاة وصام رمضان والحجّ لمن استطاع إليه سبيلا؛ فقد دخل الإسلام وعصم دمه وماله. ذلك حتى ولو كان منافقاً في كلّ ما قال وما فعل. وهذا معنى أن الشريعة عليها بالظاهر.
قال تبارك وتعالى:
{ قالت الأعراب آمنّا قل لّم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا
ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم }
[14 الحجرات]
هذا هو الإسلام في طرف البداية وهو مستوى دون الإيمان. أمّا الإسلام في طرف النهاية هو أعلى بكثير فوق الإيمان. هو يأتي بعد أن تقطع وتُستوفى درجات الإيمان، فالإحسان ثمّ ترتقي مراقي: علم اليقين، فعلم عين اليقين، ثمّ علم حق اليقين. بعد ذلك يتحقق الدخول في الإسلام الحق الّذي هو طرف النهاية:
{ إنّ الدين عند الله الإسـلام }
[19 آل عمران]
وأول من تفضّل {الله} عليه بنعمة تحقيق هذه الدرجة من الإسلام هو محمد بن عبد {الله} عليه أفضل الصّلاة وأتمّ التسليم.
قال تبارك وتعالى:
{ قل إنّني هداني ربّي إلى صراط مستقيم
ديناً قيما ملّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين *
قل إنّ صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين *
لا شريك له وبذلك أُمرت وأنا أوّل المسلمين }
[163 الأنعام]
ولقد تقلّب خليل {الله} إبراهيم عليه السّلام في مراقي الإيقان حتى أسلم.
قال تبارك وتعالى :
{ وإذ قال إبراهيم ربّ أرني كيف تحي الموتى
قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي
قال فخذ أربعة مّن الطّير فصرهنّ إليك
ثمّ اجعل على كلّ جبل مّنهن جزءاً ثمّ ادعهنّ يأتينك سعيا
واعلم أنّ الله عزيز حكيم }
[260 البقرة]
وبعد أن أتمّ {الله} للخليل عليه السّلام أن يطمئن على الإيمان تفضّل عليه بالدخول إلى مراقي الإيقان. قال تبارك وتعالى :
{ وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات فأتمّهنّ قال إنّي جاعلك للنّاس إماما
قال ومن ذرّيّتي قال لا ينال عهدي الظالمين }
[124 البقرة]
وقال تبارك وتعالى :
{ وكذلك نُري إبراهيم ملكوت السّماوات والأرض
وليكون من الموقنين }
[75 الأنعام]
ثمّ جاءه الفضل الأكبر بالإسلام :
{ إذ قال له ربّه أسلم قال أسلمت لربّ العالمين }
[131 البقرة] .
لعلّ الفرق بين الإسلام في طرف البداية والإسلام في طرف النهاية قد بات واضحاً. فلا يمكن أن يكون إسلام المصطفى عليه أفضل الصّلاة وأتم التسليم وإسلام الخليل عليه السّلام هو بعينه ذلك الإسلام الّذي ردّ {الله} تبارك وتعالى إليه الأعراب حين قال تبارك وتعالى :
{ قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا
ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم }
[14 الحجرات]
وجاءت شريعة الإسلام جامعة لخصائص الشريعتين السابقتين :
{ شريعة موسى عليه السلام
وشريعة عيسى عليه السلام }
و مكملة لنهج تسيير الحياة وفق ما جدّ على العقل البشري من تطور.
قال الحكيم الخبير :
{ الم * الله لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم * نزّل عليك الكتاب بالحقّ
مصدّقاً لما بين يديه وأنزل التّوراة والإنجيل *
من قبل هدى للنّاس وأنزل الفرقان
إنّ الّذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد
والله عزيز ذو انتقام }
[4 آل عمران]
وقال تبارك وتعالى :
{ وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً لتكونوا شهداء على النّاس
ويكون الرّسول عليكم شهيدا }
[143 البقرة]
الشريعة هي الوسيلة التي يتوسل بها عباد الرحمن للدخول والصعود إلى مراقي الدين. ينشدون الغايات الموصوفة لهم و النتائج المرجوة والمؤكد تحقيقها لو أنهم سلكوا الطريق الصحيح إليها.و لأن الوسائل الصحاح لابد أن تكون من جنس الغايات الكريمة فإن الشريعة هي الدين موضوعاً في أبسط وأسهل صوره مقرّباً وفق مستوى واقع الناس الفكري والاقتصادي والاجتماعي. قال الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم:
( نحن معاشر الأنبياء أُمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم )
هذا شرح على الآية الكريمة:
{ بالبيّنات والزّبر وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للنّاس ما نُزّل إليهم
ولعلّهم يتفكّرون }
[44 النحل]
في هذه الآية الكريمة: الإنزال غير التنزيل.
أُنزل الذكرُ:{ القرآن } كله وخُتمت بذلك النبوة. فلن يكون هناك إنزال جديد أو مستأنف. أما التنزيل فهو كما قال النبي صلى {الله} عليه وسلم:
(نحن معاشر الأنبياء أُمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم)
مخاطبة الناس بما يمكن لعقولهم أن تدركه من هذا القران العظيم. و بما يمكنهم العمل به. والأمثلة على ذلك مستفيضة.
قال جلّ وعلا:
{ و إن خفتم ألاّ تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم مّن النّساء
مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألاّ تعدلوا فواحدة
أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألاّ تعولوا }
[3 النساء]
وقال سبحانه وتعالى:
{ و لن تستطيعوا أن تعدلوا بين النّساء ولو حرصتم فلا تميلوا كلّ الميل فتذروها كالمعلّقة وإن تصلحوا وتتّقوا فإن الله كان غفوراً رّحيما }
[129 النساء]
المطلوب في ميزان أعلى قيم الاجتماع الحياتية هو الزوج الواحد من ذكر وأنثى. الرجل الواحد يتزوج امرأة واحدة. والمرأة الواحدة ليس لها إلا زوج واحد. ولم يكن من الحكمة في ذلك الوقت أن يقضي التشريع بزواج الواحدة فقط، ذلك لأن الرجل في ذلك الوقت كان يتزوج العديد من النساء، كما كان يمتلك عشرات الإماء. وكان ذلك هو العرف السائد حينذاك.
قال {الله} تبارك وتعالى يوجّه نبيّه عليه أفضل الصّلاة وأتمّ التسليم:
{ خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين }
[199 الأعراف]
بالإضافة إلى وضع المرأة في المجتمع فقد كانت تعتبر ضمن ما يستطيع الرجل أن يمتلك منه العدد الذي يشاء حسب إمكانياته من مال وسلطة. كذلك كانت البنت تعتبر مما يجر العار على أهلها، فكان التشديد على حراستها، ومن لم يكن يستطع أن يصونها من الخطف والسبي كان يدفنها حيّة.
{ وإذا الموءودة سُئلت * بأيّ ذنب قُتلت }
[ 9 التكوير]
و مثال آخر: قام تشريع المال على الزكاة بمقاديرها وأوقاتها المعروفة. وحتى عن هذه أحجم بعضهم وقالوا: [ إننا نصلي ونصوم ولكننا و{الله} لا نؤتي أموالنا ] والإشارات في القرآن عن أن الزكاة ليست هي المطلوب الأخير مستفيضة ومتعددة.
قال {الله} تبارك وتعالى:
{ وآتوهم مّن مّال الله الّذي آتاكم }
[33 النور]
قال :{ من مال الله }
أمّا في آية فرض الزكاة فقد قال :{ خذ من أموالهم }
ولعلّ مسألة التدرّج في التشريع واضحة هنا لا لبس فيها ولا غموض.
وقال النبي الكريم صلى {الله} عليه وسلم
في المال حق غير الزكاة )
وقال تباك وتعالى :
{ والله فضّل بعضكم على بعض في الرّزق
فما الّذين فُضّلوا برادّي رزقهم على ما ملكت أيمانهـم
فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون }
[71 النحل ]
وقال جلّ وعلا لتحديد القيمة العليا في مسألة إنفاق المال:
{ ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو }
[219 البقرة]
الأنبياء عليهم السلام، خاطبهم الرب سبحانه وتعالى على قدر عقولهم التي أعدّها وهيّأها سلفاً لتلقي هذا الخطاب العظيم. و في حق نبيّنا محمد عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم كان الخطاب من المولى عزّ وجلّ هو مسك الختام. وعنده؛ صلى {الله} عليه وسلم، خُتم الوحي من {الله} تبارك وتعالى. وبذلك خُتمت النبوّة. وبختم النبوّة اكتمل وضع الدستور الذي ينظم حياة البشر؛ ليس المسلمين فحسب، وإنما جميع العالمين: الإنس والجن. و هو في حقيقة الأمر دستور الحياة منذ انبثاقها وإلى أن يرث {الله} الأرض ومن عليها؛ لا بل و حتى تلقى الحياة ربها حيث لا حيث وعند لا عند.
وعليه فإن كل الذي أراده {الله} سبحانه وتعالى أن يُقال: قد تمّ قوله وإنزاله. ولن يكون هناك قول جديد يُقال أو يُنزل:
( رُفعت الأقلام وجفت الصحف )
هذا في حق الإرادة الإلهية الحكيمة. أما فيما يتعلق بالحياة وأحيائها، فإن كل يوم جديد يكشف أُفقاً كان مخفي. ويكون فيه إدراك أوسع يتطلب تنظيماً يوافق الاحتياجات الحياتية المستجدة الظهور، ويواكب القدرات الفكرية المتوسعة. و هذا يعني أن التنزيل مستمرّ بمعنى أن كلّ يوم جديد يكشف لنا {الله} فيه فهماً جديداً لم يكن في اليوم السابق معروفاً.
{ كل يوم هو في شأن }
وهذا ممّا طالعنا من فهم لحديث المصطفى عليه أفضل الصّلاة وأتمّ التسليم:
( خالق غدٍ يأت برزق غدٍ كلّ غدٍ )
ذلك أنّ الرّزق ليس ماديّاً فقط وإنّما هو أيضا رزق العلم والمعرفة. و طالما أن دستور الحياة العام موجود ومكتمل فإنه، قولاً واحد، يشمل الحلول الشافية لكل إشكال من إشكالات الحياة المستجدة الظهور.
قال {الله} تبارك وتعالى :
{ بالبيّنات والزّبر و أنزلنا إليك الذكر
لتبين للناس ما نُزّل إليهم ولعلهم يتفكرون }
[44 النحل]
قلنا أن التنزيل يعني التبيين من القرآن على قدر ما يحتاجه ويستوعبه الناس حسب قدر عقولهم، ووفق واقع المقدرات الحياتية الواقعية؛ وفي نفس الوقت يندبهم ليتفكروا. وهذا هو ما يقرره القرآن.
قال تبارك وتعالى:
{ لا يكلّف الله نفسا إلاّ وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت }
[286 البقرة]
و من ضمن القدر الذي نُزّل كانت الشريعة. والشريعة معاملة وعبادة. العبادة وسيلة للمعاملة. ألم يقل من أُوتيّ جوامع الكلم عليه أفضل الصّلاة وأتمّ التسليم:
( الدين المعاملة ) و ( الدين حسن الخلق )
و ( حسن الخلق خلق{الله} الأعظم )
والعبادات هي الوسيلة الناجعة لإذكاء الفكر. {الله} سبحانه وتعالى وضع الأهداف نصب أعيننا ووضع الآلية التي إن استخدمت بإحسان لابد وأنها تقودنا قُدما نحو التحقيق والوصول إلى تلك الغايات المرجوّة. ولأن غاية الغايات هي وجه الكريم المتعال، فإن اكتمال الإنزال لا يعني تمام التبيين.
يمكن القول أن اكتمال الإنزال يعني تمام التبليغ. أما التبيين فقد تم بقدر استعداد المبلغين بالأمر. ولا يزال التبيين مستمراً إلى يوم الدين. الرسول عليه الصلاة والسلام في أول الأيام وفي أثناء تواجده مع الناس بشخصه الكريم المشرّف بشرف النبوّة قام بمهمة التبيين على قدر العقل آنذاك خير قيام. ولكن بعد أن انتقل إلى الرفيق الأعلى أصبح التبيين من مهمات العقول المستنيرة المؤدبة بأدب القران الكريم والسنة المشرّفة. قال عليه الصلاة والسلام:
( تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلوا أبداً كتاب {الله} وسنتي )
ولقد قال عليه الصلاة والسلام مبيناً للناس سبل التبيين المستمرة إلى يوم الدين:
( من عمل بما علم أورثه {الله} علم ما لم يعلم )
إذن فوسيلة التبيين هي: العمل بمقتضي ما عُلم. فإن تمّ ذلك بإحسان أورث {الله} العامل بقدر علمه مزيداً من العلم.
قال جلّ وعلا:
{ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم
حتىّ يتبيّن لهم أنه الحق
أو لم يكف بربّك أنّه على كلّ شيّء شهيد }
[ 53 فُصّلت]
فبقدر ما أراده {الله} سبحانه وتعالى للناس أن يطالعوه من آفاق يكون مستوى فهمهم ومستوى تطبيقهم. لو أن الناس أحكموا التطبيق للذي علموه من أحكام وُضعت على قدر إمكانيات استيعابهم، لانفتحت لهم الآفاق على مستوى أعلى وأرفع من المعرفة. و بذلك كلما زاد العلم والمعرفة: اتسعت رقعة الحركة في التطبيق:
( من عمل بما علم أورثه {الله} علم ما لم يعلم )
وقال {الله} تبارك وتعالى:
{ واتقوا الله ويعلّمكم الله والله بكلّ شيء عليم }
[282 البقرة]
ومعلوم أن التقوى معناها العمل بالشريعة بإحسان: تطبيق أحكامها واجتناب نواهيها. فإن كُتب للإنسان أن يفي حق التطبيق لما علمه من أحكام شرعية؛ امتدّ بصره إلى الأمام ليجد أنه مازال في بدايات الطريق؛ وكما أسلفنا القول فإن الشريعة هي الطريق الذي يقودك إلى داخل حظيرة الدين، ولأن الشريعة هي طرف الدين مما يلي السائرون إلى الديّان فإنه ليس لأحد أن يقول بأنه قد اكتمل دينه: لأنه يؤدي ما عليه من فروض وفق أحكام الشريعة؛ ذلك لأن هذه الفروض هي الحد الأدنى من [ علم: وعمل بمقتضى العلم ] وأن ما دونها خروج عن الحظيرة. وأن هذه الفروض هي قاعدة التكليف، هي أساس البنيان الذي يُراد له أن يقوم على ركائز ثابتة وأساس متين.
فإن تمّ هذا، بدأ المتديّن وشرع في الدخول إلى الدين.
وكلما شاء {الله} له أن يتوغل: شاء له أن يزداد معرفة وبذلك يرتفع مستوى تكليفه ومن ثمّ تتسع دائرة تطبيقه ومن ثمّ يعلو بنيانه:
{ لا يُكلّف الله نفساً إلاّ وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } [286 البقرة]
وبقدر أهل العزم تأتي العزائم.
هذا البنيان هرم لولبيّ لا سقف محسوس له لأن قمته عند {الله} بديع السماوات والأرض، حيث لا حيث وعند لا عند.
الشريعة هي الدين وبذلك هي مطلقة إطلاق الدين. فهي لا حدود لها ولا يستطيع أحد أن يقول بأنه قد اكتمل تشرّعه. ذلك لأن الشريعة جسم لولبي مطلق شأنها هو شأن {الله} عز وجلّ فهي مستوعبة لمقتضيات كل يوم جديد في مسيرة نمو وتطور العقل البشري. و الذي يمكننا من أن نتصور آلية سير نموه وتطوره هو عصا الأعمى:
يقدمها أمامه ليؤمّن مساحة آمنة أمامه؛ فمكان وضعها تحرّك إليه. ثمّ يقدمها؛ وهكذا فكلما قطع مسافة، امتدّت أمامه مسافة أخرى.
و بسبيل التفصيل: فإن هذا الحد الأدنى من الأحكام الشرعية ورد في حديث جبريل عليه السلام. الحديث يرويه عمر بن الخطاب رضي {الله} عنه قال:
{ بينما نحن جلوساً عند رسول {الله} صلى {الله} عليه وسلم إذ أقبل علينا رجلٌ شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد؛ فجلس إلى النبي صلى {الله} عليه وسلم: وأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع يديه على فخذيه ثمّ قال:{ يا محمد أخبرني عن الإسلام } ؟
فقال رسول {الله} صلى {الله} عليه وسلم:
( الإسلام أن تشهد ألا إله إلا {الله}وأن محمداً رسول {الله}
وأن تقيم الصلاة وأن تؤتي الزكاة وأن تصـوم رمضان
وأن تحج البيت إن استطعت إليه سبيلا )
قال:{ صدقت }
قال عمر رضي {الله} عنه: فعجبنا له يسأله ويصدّقه.
ثمّ قال:{ فأخبرني عن الإيمان }؟
قال النبيّ صلى {الله} عليه وسلم:
( الإيمان هو أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله
واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره )
قال : { صدقت }
قال :{ فأخبرني عن الإحسان } ؟
قال عليه الصلاة والسلام:
( الإحسان أن تعبد {الله} كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك )
ثم سأله عن الساعة وعن علاماتها
وانصرف الرجل.
فلبث النبيّ صلي {الله} عليه وسلم مليّاً ثمّ قال:
( أتعلمون من هذا )؟
قلنا: {الله} ورسوله أعلم.
فقال رسول {الله} صلي {الله} عليه وسلم :
(هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم )
اقرأ: ( يعلّمكم دينكم )
قال دينكم ولم يقل: يعلّمكم الدين أو يعلّمكم دين {الله}.
قال تبارك وتعالى:
{ شهد الله أنّه لا إله إلاّ هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط
لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم * إنّ الدّين عند الله الإسلام }
[19 آل عمران]
وبطبيعة الحال ليس الإسلام المشار إليه هنا هو ذلك الإسلام الّذي رُدّ إليه الأعراب حينما قالوا: آمنّا. وإنما هو الإسلام الحق الّذي قال عنه المولى تبارك وتعالى:
{ أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض
طوعاً وكرهاً وإليه يُرجعون }
[83 آل عمران]
فإذا وضعنا في الحسبان قول النبيّ صلى {الله} عليه وسلم:
( نحن معاشر الأنبياء أُمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم )
نعلم أن الذي جاء به جبريل عليه السلام من دين يعلمه الناس في ذلك الوقت وفي ذلك المجلس المشرّف ، هو الحد الأدنى من الدين جاء به على قدر استعداد الناس على الفهم والتقبّل في ذلك الوقت لطفاً من {الله} ورحمة بالعباد. و هم ليس مطلوب منهم أكثر من ذلك:
{ لا يُكلّف الله نفساً إلاّ وسعها }
فإن هم فعلوه بصدق فقد أفلحوا. و لقد ورد في الأثر أن أعرابياً جاء إلى رسول {الله} صلى {الله} عليه وسلم وسأله عما يجب عليه أداؤه. ثمّ قوله بأنه سيؤدي ما عليه ولا يزيد. ثمّ قول النبيّ الكريم عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم:
( أفلح إن صدق )
وأفلح تعني نجح في الدخول إلى الدين. والنجاح ليس له حدود لأن كماله عند {الله} سبحانه وتعالى.
و التكليف إنما يكون بقدر الإدراك لمعالم الشريعة. و لأن معالم الشريعة هي معالم الدين؛ ولأن معالم الدين هي معالم المعرفة ب {الله} القدوس السميع العليم؛ فإن التكليف ليس له حدٌّ محدود ونهاية ينتهي عندها المُكلّف. وبقدر أهل العزم تأتي العزائم. فحين كان تكليف الناس آنذاك هو هذه الأركان الخمس المعروفة كحدٍ أدنى لا يُقبل النزول عنه؛ كان تكليف النبيّ صلى {الله} عليه وسلم أكبر من ذلك وبلا حدود يمكن أن يقف عندها. ولا يُقال بأن تكليف النبيّ صلى {الله} عليه وسلم سيظل هكذا غير مفروض على الأمة وذلك لأنه نبيّ.
{الله} سبحانه وتعالى يقطع علينـا هذه الحجـة:
{ لقد جاءكم رسول مّن أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم
حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم }
[128 التوبة]
ولقد قال النبيّ صلى {الله} عليه وسلم لذلك الأعرابي الذي جاء وأُخذ بهيبته صلى {الله} عليـه وسلم؛ قال :
( هوّن عليك إنما أنا بن امرأة من قريش كانت تأكل القديد )
وحين بيّن النبيّ صلى {الله} عليه وسلم للناس معالم الحد الأدنى من التكليف: ندبهم للإقتداء والتأسي به. قال {الله} سبحانه وتعالى:
{ قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني
يُحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رّحيم }
[31 آل عمران ]
و الإتّباع إنما يكون باقتفاء الأثر والسير خلف الخطى بوضع الأقدام على أثر الأقدام بلا زيادة أو إنقاص.
قال النبيّ صلى {الله} عليه وسلم:
( صلوا كما رأيتموني أصلي )
وقال :
( خذوا عني مناسككم )
قال {الله} تبارك وتعالى:
{ لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ
لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً }
[ 21 الأحزاب ]
محمد بن عبد {الله} عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم هو النبيّ خاتم الأنبياء؛ وهو رسول {الله} إلى الكافة.وهو كونه نبيّ له شريعة النبوّة. وهي شريعة فردية متعلقة به في مستوى نبوّته ولذلك لم يُكلّف بها عامة الناس وإنما نُدبوا للتأسي بها؛ وهم سيكون لهم الأجر إن هم فعلوها و إلا فلا إثم عليهم. هذه الشريعة الفردية هي السنة النبوية المشرفة.
و هي كما هو معلوم أنّها: { شريعة العامّة وزيادة } فعبادته صلى {الله} عليه وسلم كانت تزيد عن عبادة الأمة وهي فرض عين عليه. قال {الله} سبحانه وتعالى يوجه الأمر المباشر إلى محمد بن عبد {الله} النبي عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم:
{ يا أيّها المزّمّل * قُم الليل إلاّ قليلا *
نصفه أو انقص منه قليلا * أو زد عليه ورتّل القرآن ترتيلا *
إنّا سنلقي عليك قولاً ثقيلا * إنّ ناشئة الليل هي أشدّ وطأ وأقوم قيلا *
إنّ لك في النّهار سبحاً طويلا * واذكر اسم ربّك وتبتّل إليه تبتيلا *
رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا *
واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلا }
[10 المزّمّل]
هذا تكليف لم يُكلّف به الناس. بل حدث أن كان النبيّ صلى {الله} عليه وسلم يقيم الليل يصلي منفرداً بالمسجد؛ فرآه الناس وصلوا خلفه. وفي الليـلة اللاّحقة لم يخرج وصـلى في بيته. وكان أن سأله الصحابة رضوان {الله} عليهم عن سبب عدم خروجه لصلاة القيام؟
فقال عليه الصلاة والسلام:
( خشيت أن تُكتب عليكم )
ولقد خشي أن تفرض عليهم وهم في مستواهم ذلك الذي كان، و المحل فيهم لمّا يستعد بعد لأن تُفرض عليهم التكاليف النبوية العليا. و الحق أنها ستكون مفروضة في حق كل من يستعد المكان فيه معرفة ومقدرة على التطبيق. فشريعة العارف معرفته. فكلما زادت المعرفة وجب التطبيق بمقتضى مستوى العلم الذي تحقق.
{ واتقوا الله ويعلّمكم الله }
( من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم )
صلاة التراويح بدعة:
ولعله من المناسب هنا أن نتعرض لما يسمى بصلاة التراويح في رمضان.
ونؤكد بأن صلاة التراويح التي تقام سنوياً طيلة شهر رمضان المبارك تصلى بعد صلاة العشاء مباشرة ما هي إلا بدعة ابتدعها سيدنا عمر رضي {الله} عنه. وهي تعتبر بدعة حسنة بمقياس القرن السابع الميلادي.
الشاهد في الأمر هو أن جماعة الصحابة رضوان {الله} عليهم بعد أن امتنع النبي عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم عن الخروج من بيته المشرف لصلاة القيام بالمسجد ليلاً، صاروا، تأسياً به، يصلون بالمسجد فرادى. كل يتخذ له موضعاً يصلي فيه جهراً.
و استمر الحال بهم هكذا حتى عهد عمر رضي {الله} عنه، حين خرج عليهم ذات مرة فوجدهم على ذلك الحال يصلون فرادى جهراً فقال: لو أننا جمعناهم على إمام.
ومنذ ذلك الوقت ظهرت صلاة التراويح.
شريعة النبوّة في المال:
وفي المال كانت شريعة النبوة هي إنفاق العفو. فهو صلى {الله} عليه وسلم لم يكن ليكتنز رزق يومٍ للغد. وكان يقول:
( لو توكلتم على {الله} حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير
تغدوا خماصاً وتروح بطانا )
ولم يكن صلى {الله} عليه و سلم، ليبيت متعشياً قط وهو يعلم أن جاره جائع. كان عليه الصلاة والسلام وكأنه يقول: الأرزاق متوفرة ومبذولة للجميع، بل وأنها مضمونة كما الحال عند الطير فلماذا الكنز والجشع والخوف من يوم غد.
وقد قال صلى {الله} عليه وسلم:
( خالق غدٍ يأت برزق غد كل غدٍ )
ولقد قال عليه أفضل الصّلاة وأتمّ التسليم:
( كان الأشعريون إذا أملقوا وهم في سفر افترشوا ثوباً فوضعوا عليه ما عندهم من زاد و تقاسموه بالسوية أولئـك قوم أنا منهم وهم مني )
هذا وكأنه يقول يجب أن تكون شريعة المال بين الناس أن يتقاسموه بالسوية. ولعمري أن الإسلام أحق بمساواة الناس اقتصادياً من أية نظرية أخرى.
قال صلى {الله} عليه وسلم :
( من كان عنده فضل زاد فليجد به على من لا زاد له
و من كان عنده فضل ظهر فليجد به على من لا ظهر له )
قال الراوي : فذهب صلى {الله} عليه وسلم يعدد في الفضل حتى ظننا أنه ليس لأحد حق في فضل . هذه إشارات واضحة ولا تحتمل أي تأويل، لأن هذا هو الحال الذي كان عليه هو صلى {الله} عليه وسلم. وعندما يرد القول الكريم من الرب العظيم:
{ قل إن كنتم تحبون الله فاتّبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم
والله غفور رحيم }
[31 آل عمران]0
فماذا بعد هذا ليؤكد أن المساواة الاقتصادية هي التكليف المرجو للنّاس الالتزام به.
وعلى قمّة الشريعة الفرديّة المشرّفة الخاصة بمحمد بن عبد {الله} عليه أفضل صلوات {الله} وسلامه: تكليفه؛ دون من سبق من الأنبياء الكرام؛ بتبليغ رسالات ربّه تبارك وتعالى إلى كافة العالمين: الإنس جميعهم والجنّ كلّهم ممن يعمرون الأرض ويتطاولون للعروج إلى السماء.
كلّ من سبق من الأنبياء الرسل الكرام عليهم السلام كان قد أرسل إلى قومه فقط:
{ ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبيّنات }
[47 الروم]
{ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله }
[23 المؤمنون]
{ ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله }
[45 النمل]
{ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا
أن أخرج قومك من الظّلمات إلى النّور }
[5 إبراهيم]
{ كذّبت عاد المرسلين * إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون *
إنّي لكم رسول أمين }
[125 الشعراء]
أمّا خاتم الأنبياء المشرّف بالرسالة إلى العالمين فقد قال له ربّ العالمين:
{ وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين }
[107 الأنبياء]
{ وما أرسلناك إلاّ كافة للنّاس
بشيرا ونذيرا }
[28 سبأ]
وقال {الله} تبارك وتعالى عن خاتم أنبيائه عليه أفضل الصّلاة وأتمّ التسليم:
{ هو الّذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ
ليظهره على الدّين كلّه ولو كره المشركون }
[33 التوبة]
{ هو الّذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه
وكفى بالله شهيدا }
[28 الفتح]
حقوق المرأة الإنسان: